قمة منظمة شنغهاي اليوم في تيانجين : إعادة ضبطٍ دقيقة لموازين القوة العالمية
قمة منظمة شنغهاي اليوم في تيانجين : إعادة ضبطٍ دقيقة لموازين القوة العالمية
تحليل استراتيجي - خاص - بحر العرب
تمهيد مكثّف
بانتظام قادة «شنغهاي» في تيانجين (31 أغسطس–1 سبتمبر)، مع حضور فلاديمير بوتين ولقاء شي جين بينغ بناريندرا مودي، بدا المشهد أقرب إلى لحظة معايرة جديدة للنظام الدولي : اختبار متقدّم لفكرة التعدديّة القطبيّة وهي تتجاوز الشعار إلى ترتيباتٍ عملية في الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا والتمويل .
حضور بوتين، واللقاء الصيني–الهندي، واتساع دائرة المشاركين، كلّها مؤشّرات أنّ القمّة ليست مجرّد حدث بروتوكولي، بل منصّة لإعادة توزيع أوزان النفوذ الإقليمي والعالمي.
الأهداف : المُعلَن والمضمر
1) الصين: من «قوة صاعدة» إلى «منسّق تعدّدي»
•المعلن: تثبيت «شنغهاي» كإطارٍ جامع للأمن والتنمية، وإظهار القدرة على جمع أضدادٍ إقليميين تحت سقف واحد .
•المضمر: تعميق التشبيك الاستراتيجي مع روسيا وإعادة تدوير النفوذ مع الهند عبر تبريد حدود النزاع، بما يخفّف كلفة الاحتكاك ويحرّر موارد للتحدّي الاقتصادي والتكنولوجي مع الغرب .
لقاء شي–مودي يوحي بمسعى لخفض حرارة الحدود لصالح أجندة تنموية أوسع.
2) روسيا : كسر العُزلة بمعادلة «حشد الشرق»
•المعلن : تنسيق المواقف الأمنية ومراكمة شرعية دولية موازنة للغرب .
•المضمر : توسيع منافذ التجارة والدبلوماسية والدفاع، وإظهار أن العقوبات لم تُخرج موسكو من لعبة التحالفات، بل دفعتها لتعميقها شرقاً .
3) الهند : توازنٌ هندسي بين الصين والغرب
•المعلن : طيّ صفحة التوتر الحدودي تدريجياً، والانخراط البنّاء داخل «شنغهاي».
•المضمر : تعظيم هامش الحركة بين واشنطن وبروكسل من جهة، وبكين وموسكو من جهة أخرى؛ أي تحويل «ساحة تيانجين» إلى رافعة تفاوضية مع كلّ الأطراف .
4) آسيا الوسطى وباقي الأعضاء : تنويع المظلّات
•المعلن : مكافحة الإرهاب وتنمية البنى التحتية والتجارة .
•المضمر : تقليل الاعتمادية على محورٍ واحد، والتقاط مكاسب التنافس بين الكبار داخل إطارٍ مؤسسي واسع لـ«شنغهاي». (اتساع العضوية والحضور يشي بذلك .)
أدوات النفوذ قيد التشبيك
•هندسة أمنية بلا التزامات دفاعية صلبة: «شنغهاي» ليست «ناتو»، لكنها تصنع بيئة تنسيق أمني واستخباري تُخفّض مخاطر سوء الحساب وتزيد كلفة الإقصاء .
•اقتصادٌ يُكافئ الاصطفاف المرن : أجندة القمّة هذا العام محمّلة برسائل حول التجارة وسلاسل التوريد في ظل رسومٍ أمريكية متجدّدة؛ ما يدفع باتجاه ترتيبات تسويةٍ وعقودٍ أطول أمدًا بين أعضاء «شنغهاي».
•دبلوماسية الصور واللقاءات الثنائية: صورة بوتين في تيانجين، ومصافحة شي – مودي، ليست تفاصيل بروتوكولية؛ إنها «إشارات سوق» تعيد تسعير المخاطر السياسية في آسيا .
النتائج الأولى (Short Term Outcomes)
1.خفض مدروس للتوتّر الصيني–الهندي: التعهّد بتسوية الخلافات الحدودية يفتح ثغرة لإعادة تدوير العلاقة نحو منافسةٍ مُدارة لا صِدامٍ مُستنزِف .
هذا وحده يعيد وزن «شنغهاي» بوصفها منتجًا للاستقرار لا مجرّد منتدى .
2.ترميم صورة المحور الصيني–الروسي : الحضور الرفيع يمكّن موسكو وبكين من تسويق «شرعية بديلة» في لحظة ضغوط غربية متزايدة .
3.توسيع هوامش الدول المتوسّطة : كلّما ازداد تباين سياسات واشنطن التجارية، ارتفعت شهية العواصم الآسيوية للرهان على ترتيبات إقليمية بديلة أو مكمّلة .
المآلات الاستراتيجية : ثلاثة مسارات محتملة
المسار A — «تثبيت التعدديّة المنسّقة»
•الفرضية : نجاح تبريد الجبهة الصينية – الهندية وتحويل «شنغهاي» إلى غرفة عمليات اقتصادية–أمنية مرنة .
•النتيجة : تراجع نسبي في قابلية التصعيد الآسيوي، وارتفاع وزن آسيا في ضبط أسعار الطاقة والمعادن الحرجة وسلاسل الإلكترونيات .
المسار B — «تنافس بارد مُدار»
•الفرضية : تبقى الحدود الصينية – الهندية تحت السيطرة لكن بلا حلول نهائية، فيما تتصاعد الرسوم والعقوبات الغربية .
•النتيجة : تتوسع ترتيبات التسوية بالعملات المحلية وتكامل الممرّات البرية – البحرية داخل آسيا، مع بقاء خطر «شظايا» جيوسياسية موضعية .
المسار C — «عودة التوتّر الحاد»
•الفرضية : انهيار مسار التهدئة الصيني–الهندي أو صدمة كبرى (أمنية/تجارية) .
•النتيجة : ارتداد «شنغهاي» إلى منتدى تنسيقي محدود، وتبخر مكاسب اللحظة الحالية، وعودة آسيا إلى معادلة استقطاب ثنائي حاد .
أين يتغيّر ميزان القوى فعلياً ؟
•في القدرة على وضع الأجندة (Agenda-Setting) : استضافة الصين لأكبر قمّة لـ«شنغهاي» حتى الآن، وحشد أكثر من 20 زعيماً، يضع بكين في موقع «المُنظِّم» الإقليمي، لا مجرّد اللاعب .
•في بنية التحالُف المرن: لقاء شي–مودي، وبروزه إلى الواجهة، يشي بأن آسيا تختبر صيغة «التعايش التنافسي» بديلاً عن منطق الأحلاف الصلبة .
•في «شرعية» البدائل المؤسسية : الظهور المكثّف لـ«شنغهاي» يؤطر السردية الروسية ويمنحها منصّة تَواصل مع «الجنوب العالمي»، ولو دون التزامات دفاعية مُلزِمة .
دلالات خاصة للعالم العربي
•تنويع الشركاء بلا قطيعة : اللحظة مناسبة لصياغة عقود توريد وتكنولوجيا وتمويل متوازنة بين الشرق والغرب، بدل الارتهان لمحورٍ واحد .
•الرهان على «التنافس المفيد»: استثماره لانتزاع شروطٍ أفضل في الطاقة، البتروكيماويات، المعادن الخضراء، والموانئ .
•إدارة المخاطر : فصل الدفاع عن الاقتصاد حيث أمكن، مع تعزيز مرونة سلاسل التوريد (ممرات بديلة، تخزين ذكي، عقود تحوّط) .
خلاصة تحريرية
قمة تيانجين لـ«شنغهاي» ليست إعلان انتصارٍ على نظامٍ دولي قائم، بل تخصيص دقيق لكيفية الاشتباك معه :
تثبيت الصين كمنسِّقٍ للتعدديّة، إعادة تموضع روسي عبر شرعيةٍ شرقية، وارتقاء هنديٍ براغماتي يحوّل الحدود من عبءٍ إستراتيجي إلى ورقة تفاوض .
إن ترجم هذا إلى آلياتٍ اقتصادية وأمنية قابلة للحياة، فسنكون أمام ميزان قوى جديدٍ بحدودٍ آسيوية ومعادلاتٍ عالمية — ميزانٌ لا ينقلب على الغرب، لكنه يُجبره على إعادة التسعير .