بحث

عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إيران وتصاعد تهديد العقوبات


 

عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إيران وتصاعد تهديد العقوبات

تحليل استراتيجي مفصّل — صحيفة «بحر العرب»

المقدّمة (الخبر في سطرين)

في أواخر أغسطس 2025 عاد فريق من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إيران للمرة الأولى منذ تجميد التعاون إثر الضربات على منشآتها النووية في يونيو، لكن طهران وصفت هذا الحضور بأنه محدود وليس استئنافًا كاملاً للتعاون .

في المقابل أعلنت دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) أنها مستعدة لبدء آلية إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة («الـsnapback») إذا لم تتبلور دلائل فاعلة على انتظام الرقابة والعودة إلى مسار تفاوضي واضح . 

أولاً : الوقائع الأساسية — تسلسل مختصر للأحداث

• في يونيو 2025 تعرّضت بعض المواقع النووية داخل إيران لهجمات (إسرائيل هي المُتهم الأول بتنفيذها).

•بعد هذه الهجمات، البرلمان الإيراني أصدر قرارًا، والرئاسة الإيرانية أقرّت قانونًا رسميًا، يقضي بـ تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية .

الخلاصة : هجوم خارجي على المواقع النووية → رد سياسي وقانوني من طهران → إيقاف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية .

في تقرير مايو 2025، أكدت الوكالة أن إيران تمتلك مخزونات كبيرة من اليورانيوم المخصب وصلت نسبته إلى 60%.

•هذه النسبة عالية جدًا، لأن اليورانيوم المستخدم في تشغيل المفاعلات السلمية عادةً يكون أقل بكثير (3–5%).

•وجود مخزون بهذا المستوى يعني أن إيران باتت أقرب تقنيًا لإنتاج يورانيوم مخصب بدرجة 90%، وهي النسبة المطلوبة لصناعة سلاح نووي.

•لهذا السبب ارتفع القلق الدولي من مسألة تسمى “زمن الاختراق” (Breakout Time)، أي الفترة الزمنية التي تحتاجها إيران إذا قررت أن ترفع التخصيب من 60% إلى 90% وتحوّله إلى مادة صالحة لصنع سلاح نووي .

الخلاصة : تقرير الوكالة في مايو 2025 قال إن إيران أصبحت تمتلك كميات ونسب تخصيب تجعلها قريبة جدًا من القدرة النووية العسكرية، وهذا ما أقلق المجتمع الدولي وفتح الباب أمام ضغوط وعقوبات جديدة .

. في 26–27 أغسطس 2025 سمحت طهران بعودة فريق من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن في إطار ترتيبات مؤقتة ومحدودة، اقتصرت مثلًا على متابعة عملية استبدال وقود محطة بوشهر النووية. وأكدت السلطات الإيرانية أن هذه الخطوة لا تعني عودة التعاون الكامل مع الوكالة، بل ستكون هناك أطر جديدة للتعامل تُحدَّد وفق شروطها. في المقابل، صعّدت دول الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) من ضغوطها الدبلوماسية، ملوّحة بتفعيل آلية إعادة العقوبات الدولية (snapback) إذا لم تُقدّم إيران ضمانات جدّية بخصوص أنشطتها النووية .

 

ثانياً : الخفايا — ما لا يُقال صراحةً ولكنّه يؤثّر في مسار الأزمة

1.صراع داخلي على شكل العلاقة مع الوكالة : قرار البرلمان وقانون التعليق وضعا يديّ السلطة التشريعية والأمنية على أي قرار تعاون .

لكن جهاز الدولة (الخارجية، هيئة الطاقة الذرية) يسعى لتحقيق موازنة بين الحاجة العملية (تشغيل محطات / وقود) والحفاظ على «الكبرياء السيادي» .

هذا التوازن يفسّر السماح بزيارة محدودة فقط . 

2.حسابات الردع والردّ الخارجي : الطرح الأوروبي بتفعيل آلية «الـsnapback» ما هو إلا محاولة لتشديد الضغط السياسي والاقتصادي على طهران لفتح نافذة تفاوضية قبل الانزلاق إلى مواجهة أوسع؛ الدول الأوروبية تراهن على أن التهديد بالعقوبات يعيد إيران إلى طاولة تفاوض من دون انفتاح عسكري مباشر . 

3.قدرة إيران التفاوضية المبنية على الطاقة والوقت : جُزْء من استراتيجية طهران استثمار مخزونها من المخصّبات (وإمكانية تسريع التخصيب) كورقة تفاوض — أي : «سأعيد التعاون بالشروط السياسية مقابل ضمانات من الهجمات ومنع فرض عقوبات تُشَلّ اقتصاديًا». 

4.تحييد الوكالة من الاستهداف السياسي : رئيس الوكالة واجه تهديدات متزايدة واضطر لتدابير حماية شخصية، ما يعكس الضغوط السياسية التي تعيق عمل الوكالة وتجعل دورها التقني عرضة للابتزاز السياسي . 

ثالثاً : الواقع النووي : ما تخبرنا به التقارير الفنية (وقيمة المخاطر)

. أظهر تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية GOV/2025/24، الصادر في 17 مايو 2025، أن إيران باتت تمتلك نحو 9.2 طن من اليورانيوم المخصّب بمستويات مختلفة، من بينها مئات الكيلوغرامات وصلت نسبتها إلى 60% .

هذا الرقم يعكس قفزة نوعية في حجم ونوعية المخزونات النووية، ويُعيد رسم معادلة ما يُعرف بـ«الزمن التقني للاختراق النووي»، أي الفترة الزمنية التي تحتاجها طهران إذا قررت رفع التخصيب إلى مستوى 90% وتحويله إلى مادة صالحة لإنتاج سلاح نووي .

التحليل الاستراتيجي

امتلاك إيران لمخزون يصل إلى 9.2 طن من اليورانيوم المخصب، منها مئات الكيلوغرامات بنسبة 60%، يمثل نقطة تحول حساسة في ميزان القوى الإقليمي .

فهذا الحجم من المواد، حتى وإن لم يكن بعد على مستوى 90% العسكري، يختصر بشكل خطير ما يُسمى بـ«زمن الاختراق النووي»، أي الفترة اللازمة للانتقال من التخصيب المرتفع إلى إنتاج مادة صالحة للسلاح .

مقارنةً بالسنوات السابقة، حين لم يكن المخزون الإيراني يتجاوز أطنانًا قليلة عند نسب تخصيب متدنية (3.5%–20%)، فإن الوضع الحالي يضع إيران أقرب من أي وقت مضى إلى العتبة النووية .

هذا التحوّل يمنح طهران ورقة ردع استراتيجية في مواجهة خصومها الإقليميين — وعلى رأسهم إسرائيل التي تملك ترسانة نووية غير مُعلنة — كما يعزز قدرتها التفاوضية في مواجهة الغرب .

لكن في المقابل، هذا التراكم يرفع منسوب القلق لدى العواصم الغربية التي تخشى أن يُترجم المخزون إلى قرار سياسي سريع بتحويله إلى سلاح، وهو ما قد يدفع أوروبا والولايات المتحدة إلى تسريع مسار العقوبات، بل وربما غضّ الطرف عن عمليات عسكرية استباقية تقودها إسرائيل لعرقلة هذا التقدّم .

•تحليلات فنية مستقلة (مثل تقارير مراكز خبراء) تشير إلى أن وجود كميات من المادة المخصّبة بدرجة عالية يقلّص زمن إنتاج مادّة «حربوية» بشكل كبير — وهو سبب ضغط الغرب على استعادة رقابة مستمرة وميسّرة . 

 

رابعاً : الحدث في ميزان الاستراتيجية — من يملك ورقة المبادرة ؟

• طهران : تملك قدرة فنية متزايدة (مخزونات وتطوّر أجهزة الطرد المركزي) وورقة وقت؛ لكنها تواجه ضغطًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا يحدّ من هامش المناورة .

استراتيجيتها الحالية مزيج من : تعزيز القدرات، الحفاظ على سيادة القرار، وفتح ممرات تفاوضية مشروطة . 

• أوروبا (الترويكا) : تستخدم آلية عقابية قانونية للضغط دون لجوء فوري لاستخدام القوة؛ نجاح هذه الإستراتيجية يتوقف على قدرتها على حشد تأييد دولي واسع وعلى عدم التصادم مع روسيا والصين في مجلس الأمن . 

الولايات المتحدة وإسرائيل : استراتيجيتان متوازيتان ومساران متباينان

 – الولايات المتحدة :

واشنطن تتعامل مع الملف الإيراني بصفته أزمة متعددة الأبعاد : نووية، إقليمية، واقتصادية. لذلك تميل السياسة الأميركية إلى إدارة الأزمة بدل تفجيرها، عبر الجمع بين :

• الدبلوماسية النشطة : إعادة فتح قنوات مع الوكالة الدولية ومع الحلفاء الأوروبيين، بهدف فرض رقابة جزئية على الأقل، تمنع طهران من بلوغ العتبة النووية .

• الضغط الاقتصادي المرحلي : إبقاء العقوبات كسلاح رئيسي يُستعمل تصعيدًا أو تخفيفًا وفق سلوك إيران .

• الخيار العسكري الاحتياطي : يبقى حاضرًا لكنه غير مفضَّل، إذ تدرك واشنطن أن ضربة واسعة قد تشعل المنطقة وتضر بأسواق الطاقة العالمية، خصوصًا في عام انتخابي أو ظرف اقتصادي حساس .

بكلمة أخرى، الولايات المتحدة تتبنى عقيدة العصا والجزرة : تفاوض مفتوح مشروط، يقابله تهديد صامت باستعمال القوة إذا انسدت الطرق .

 – إسرائيل :

على العكس من واشنطن، ترى تل أبيب أن أي اقتراب إيراني من مستوى 90% تخصيب يمثل تهديدًا وجوديًا مباشرًا، وبالتالي لا يمكن التعامل معه بآليات دبلوماسية بطيئة .

لذلك تميل إسرائيل إلى :

• الخيارات الوقائية : عمليات سرية أو علنية تستهدف منشآت نووية، كما حدث مرارًا منذ 2010 وحتى يونيو 2025 .

• تضييق نافذة الاختراق : عبر ضربات محدودة تُربك البرنامج الإيراني وتؤخره، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهات إقليمية محدودة .

• الضغط على الحلفاء : حث الولايات المتحدة وأوروبا على اتخاذ مواقف أكثر صرامة، بما في ذلك التسريع بآلية العقوبات أو إقرار ضمانات أمنية لإسرائيل .

بهذا المعنى، النهج الإسرائيلي “تكتيكي مباشر” بينما النهج الأميركي “استراتيجي طويل النفس” .

النتيجة :

الاختلاف بين المسارين لا يعني تناقضًا، بل يعكس تقسيم أدوار ضمني : واشنطن تمسك بالملف كقوة كبرى تسعى لإدارة التوازن العالمي، بينما تُبقي يد إسرائيل طليقة لشن ضربات موضعية تمنح الضغط الدولي “ مصداقية ردعية ”.

وفي المحصلة، تجد إيران نفسها بين كماشة مزدوجة : ضغوط اقتصادية وسياسية تقودها واشنطن وحلفاؤها، وضغوط عسكرية عملياتية تمثلها إسرائيل، مع إدراك الأطراف الإقليمية أن أي اختلال في هذا التوازن سينعكس فورًا على أمن الطاقة وخطوط الإمداد في الخليج والشرق الأوسط .

خامسا : السيناريوهات المحتملة (ثلاثة نماذج عملية)

السيناريو الأفضل — تهدئة تفاوضية مُنظّمة

• أوروبا تتريّث في تفعيل الـsnapback بعد تسجيل خطوات عملية من إيران (تمديد وصول مفتشين، شفافية في مخزون اليورانيوم، وبدء محادثات ثنائية)، وتُفتح قنوات لضمان عدم استهداف المنشآت خلال المفاوضات .

النتيجة : تراجع مخاطر الانزلاق العسكري ونافذة لإدارة أزمة طويلة الأمد .

(مرجعية: تصريحات دبلوماسية أوروبية ورغبة بتفادي المواجهة) . 

السيناريو المرجّح — ضغط متبادل مع تهديد بالعقوبات

• الأوروبيون يطلقون آلية رسمية للضغط لكن يحاولون إتاحة مهلة قصيرة؛ إيران تمنح أمثلة محدودة على التعاون (زيارات فنية محددة) وتتفاوض شرطيًا؛ توتر إقليمي يتصاعد لكن يتحوّل إلى مواجهات محدودة عبر وسطاء (الهجمات على السفن، ضربات متبادلة على مواقع غير نووية) .

الأسواق تتذبذب، لكن المواجهة الشاملة لا تحدث فورًا . 

السيناريو الأسوأ — تفعيل آلي للعقوبات وتصعيد إقليمي

• تفعيل «الـsnapback» يعيد عقوبات شاملة وتفتت قدرة بعض الدول على المناورة الاقتصادية، مما يدفع طهران إلى تصعيد عبر وكلائها أو تعطيل شحنات نفطية؛ احتمال حدوث سلسلة ضربات عسكرية أو توسيع نطاق الضربات الإسرائيلية يزيد، ويقود إلى أزمة إقليمية أوسع .

(احتمالية عالية إذا فشل المسار الدبلوماسي) . 

سادساً : مؤشرات قابلة للقياس يجب مراقبتها (مُهمّة لصانعي القرار والمحللين)

1.نطاق وصول المفتشين : هل تشمل زيارات مفاتيح مثل فوردو ونتنز؟ (مؤشر هام). 

2.تقارير الوكالة اللاحقة : استمرار إصدار تقارير دقيقة وشفافة عن المخزونات ومستويات التخصيب . 

3.إجراءات الترويكا الأوروبية : إعلان رسمي عن تفعيل أو تأجيل آلية الـsnapback والمهل المرافقة . 

4.حركة السفن في الخليج ومسارات الشحن : أي تعطيل أو هجمات على ناقلات قد تنبه إلى تصعيد إيراني غير مباشر .

5.مؤشرات داخلية إيرانية : تطورات قانونية برلمانية أو بيانات من مجلس الأمن القومي الإيراني تؤكد تشديدًا أو تراجعا . 

7) توصيات عملية — كيف ينبغي أن يتصرف اللاعبون الرئيسيون ؟

- لحكومات أوروبا والترويكا:

• ابنوا تحالفًا دوليًا واسعًا قبل تفعيل العقوبات، لتقوية موقفكم دبلوماسيًا وسياسيًا .

• حددوا شروط التعاون بوضوح مع إيران، وحددوا جداول زمنية دقيقة .

• احتفظوا بخيار تعليق العقوبات كحافز تفاوضي لفتح مسارات الحوار وتحفيز إيران على الالتزام .

-  لطهران (استراتيجيًا):

• اعرضوا خطة مرحلية واضحة لإعادة التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية .

• أدرجوا ضمانات أمنية تحمي المنشآت المدنية خلال فترة المفاوضات، لتجنب أي أزمات إضافية .

• استثمروا في قنوات تفاوض متعددة الأطراف لتقليل تأثير التقلبات السياسية الداخلية على الملف النووي .

-  للدول الخليجية والفاعلين الإقليميين :

• عززوا الاستعداد الاقتصادي عبر تنويع مصادر الطاقة وحماية الأسواق الحيوية .

• وسعوا المسار الدبلوماسي مع أوروبا والولايات المتحدة لتأمين دور مؤثر في التسوية المحتملة .

• تجنّبوا الاستفزازات التي قد تحوّل الأزمة إلى مواجهة مفتوحة تهدد استقرار المنطقة .

لوسائل الإعلام والصحافة 

•ركّزوا على رصد تقارير الوكالة الفنية والمصادر الدبلوماسية المتعددة، واحترسوا من تضخيم أنباء غير مؤكّدة. قدموا تحليلًا يربط التقارير الفنية بالآثار السياسية والإنسانية بعيدًا عن التصعيد الهستيري .

ثامناً : خاتمة موجزة

عودة مفتشي الوكالة إلى إيران ليست نهاية الأزمة بل بداية مرحلة حساسة من المساومات .

في ظلّ تراكم مخزونات مخصّبة مرتفعة وبيئة إقليمية ملتهبة، تبقى النافذة الدبلوماسية الصغيرة المتاحة الآن هي الأكثر قدرة على منع انزلاقٍ عسكري .

صناعة القرار الأوروبية والإيرانية تقفان على مفترق : إمّا البناء على الحدّ الأدنى من الثقة لفتح مسار تفاوضي مرحليّ، وإمّا الانزلاق إلى آليات عقابية قد تفتح الباب أمام موجة تصعيد إقليمي .

الصحافة ووسائل الإعلام، إضافةً إلى دوائر الرأي العام، تتحمّل مسؤولية كبيرة في شرح هذه المعادلات المعقدة للقارئ، وكشف المخاطر المحتملة، ومساءلة الجهات الفاعلة عن الخيارات الاستراتيجية التي تتخذها في الملف النووي الإيراني .

 

 

متعلقات:

آخر الأخبار