بحث

الخوارزميات تكشف أسرار الطب القديم: كيف أعاد الذكاء الاصطناعي قراءة النصوص المسمارية

الأربعاء 05/نوفمبر/2025 - الساعة: 3:27 م

بحرالعرب_متابعات:

 

في عصرٍ تُعيد فيه الخوارزميات رسم الجسد البشري بدقة تتجاوز عين الجرّاح، ينهض سؤال يتجاوز صخب الابتكار إلى صمت الحكمة القديمة: من نكون حين تتحوّل أجسادنا إلى بيانات؟ هل يقودنا هذا التقدّم نحو مستقبل أكثر كفاءة فقط، أم يعيدنا، بشكل خفي، إلى جذورٍ كان فيها الطب تأملًا لا معادلة؟

 

في بدايات الطب، كان الطبيب حكيمًا قبل أن يكون عالِمًا؛ يُنصت إلى نبض المريض كما يُنصت الشاعر لإيقاع القصيدة، ويقرأ في الصمت آلامًا ومعاني تتجاوز حدود التشخيص. أما اليوم، ومع تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة لفهم المرض وتوقّع الشفاء، فهو لا يصوغ فقط علاقة جديدة مع العلم، بل يوقظ فينا أيضًا ذلك التلاقي الأول بين المعرفة والرحمة... بين العِلم والإيمان.

 

و في عام 2023، أطلقت جامعة لايبزيغ الألمانية، بالتعاون مع معهد ماكس بلانك، مشروعًا فريدًا لتدريب نماذج تعلّم عميق على قراءة النصوص المسمارية القديمة من بلاد ما بين النهرين. وكأن الخوارزميات، بعد أن أتقنت لغات المستقبل، عادت لتتعلّم لغة الطين.

 

استخدم الباحثون آلاف الصور الرقمية عالية الدقة لألواح طينية متهالكة، وعلّموا الآلة التعرف على الرموز المسمارية حتى في حال تآكلها أو فقدان بعض حروفها. وكانت النتيجة مذهلة، إذ أعادت النماذج الذكية بناء نصوص طبية مفقودة بدقة تجاوزت 85%، بل قدّمت قراءات لغوية أكثر انسجامًا من الترجمات البشرية التقليدية.

 

في إحدى الحالات، أعادت الخوارزمية اكتشاف وصفة طبية لعلاج ما كان يُعرف بـ«النبض المضطرب» — أو ما نطلق عليه اليوم «تسرّع القلب» (Tachycardia) — باستخدام مغلي نبات الحرمل، الذي لا يزال يُستخدم حتى اليوم كمهدئ للأعصاب. لم تكتفِ الخوارزمية بالترجمة فحسب، بل بدت وكأنها فهمت المعنى.

 

في حضارات وادي الرافدين، كان الطب علماً ذا جناحين.الكاهن آشيبو الذي يعالج بالرقى وتفسير الأحلام، والطبيب (آسو) الذي يعتمد على العقاقير والفحص السريري. كانا وجهين لحكمة واحدة تؤمن بأن المرض ليس جسدياً فقط، بل نفسي وروحي أيضًا.

 

تكشف الألواح البابلية عن نظام إحالة طبي قديم، حيث تُحال الحالات من الكاهن إلى الطبيب والعكس، بحيث يُعالج السبب الغيبي أولًا، وإذا استُبعد يُسلم العلاج للطبيب الفيزيائي، وإن عجز يُرجع الأمر للكاهن.

 

اليوم، يعيد الذكاء الاصطناعي تجسيد هذا المنهج عبر مفهوم «التشخيص المزدوج» (Dual Diagnosis)، الذي يفصل بين العوامل العضوية والنفسية، ويطرح عدة احتمالات تشخيصية. هو ليس طبيباً ولا كاهناً، بل مرآة ذكية تعكس شكوكنا ويقيننا معًا.

 

و في مكتبة «آشور بانيبال» بنينوى، عُثر على أكثر من ثلاثين لوحاً طينياً طبياً تعود لأكثر من 2600 عام. لم تكن تلك الألواح مجرد وصفات عشبية، بل سجلات سريرية تتضمن تشخيصات دقيقة لأمراض القلب، والصرع، والحمّى، والأمراض النسائية، بل وإجراءات جراحية بسيطة. كانت بمثابة «السجلات الطبية الإلكترونية» لعصر لم تعرف فيه البشرية الكهرباء بعد. رغم ذلك، بقيت تلك الألواح صامتة قروناً طويلة، حتى أتت الخوارزميات الحديثة لتعطي الحياة لحروفها، حرفاً حرفاً، حتى بدا وكأن الطين نفسه يتحدث من جديد.

 

ما يثير الإعجاب ليس التقنية فحسب، بل القيم التي تستعيدها. فالأطباء البابليون التزموا بمبادئ صارمة دوّنها قانون حمورابي: «إذا نجحت الجراحة كوفئ الطبيب، وإذا فشل وتسبب بالأذى يُغرم أو تُقطع يده». إنه أقدم تعبير عن مفهوم المساءلة الطبية.

 

واليوم، في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تتخذ الخوارزميات قرارات تمس حياة الإنسان، تتكرر الأسئلة نفسها: من يتحمل مسؤولية الخطأ؟ المطوّر؟ الطبيب؟ أم النظام نفسه؟ هذه التساؤلات تعيدنا إلى ما خطّه البابليون على ألواح الطين: المسؤولية، الشفافية، والنية الصافية؛ وهي ذات المبادئ التي ترتكز عليها أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الحديث.

 

في ظلّ «رؤية المملكة 2030»، لم يعد الذكاء الاصطناعي في السعودية مجرد تقنية، بل مشروع حضاري يعيد التوازن بين التقدّم والجذور. فالتحوّل الرقمي في القطاع الصحي لا يقتصر على الخوارزميات فقط، بل يقوم على قيم الرحمة، والإنصاف، والهوية.

 

تملك المملكة فرصة نادرة لتكون رائدة في استعادة التراث العلمي العربي وربطه بالذكاء الاصطناعي. تخيّلوا مشروعاً سعودياً عالمياً يُفهرس النصوص الطبية القديمة من وادي الرافدين، ووادي النيل، والجزيرة العربية، ويُحلّل بخوارزميات حديثة تعيد بناء معرفة إنسانية عابرة للعصور.

 

مشروع كهذا لن يعيد كتابة التاريخ فحسب، بل سيمنحنا تاريخاً جديداً نكتب فصوله بأدواتنا ولغتنا وروحنا.

 

الذكاء الاصطناعي لا يمضي نحو المستقبل فقط، بل يمد نظره إلى الماضي، كأنه يستمع إلى همسات الأجداد في ألواح الطين.

 

من مسلّة حمورابي إلى شرائح السيليكون، ومن تعاويذ الشفاء إلى خوارزميات التعلم، تتجلى صورة مهيبة للطب كعلم إنساني لا يعرف حدود الزمان والمكان.

 

إذا كانت بلاد الرافدين أنجبت أول طبيب، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم لا ينافسه، بل يحيي رسالته، ويعيد للعلم إنسانيته، وللإنسان حريته في الفهم لا التلقين.

 

وكما قال حمورابي لقد وضعت قوانيني ليشرق العدل في الأرض ولأمنع القوي من ظلم الضعيف.

متعلقات:

آخر الأخبار