لم تعد أزمة حضرموت، ولا انفجار عدن، ولا تفكك مؤسسات الدولة في الجنوب، أحداثًا معزولة يمكن تفسيرها بسوء إدارة أو صراع نفوذ عابر. ما يجري اليوم هو نتيجة مشروع متكامل، بُني بهدوء خلال عقدين، ويقوم على استنساخ نموذج الحوثي لكن بلون جنوبي:
سلالة سياسية بلا دولة.
هذه السلالة لم تُبنَ على الدم أو المذهب كما في صنعاء، بل على تحالف ثلاثي اختطف "القضية الجنوبية" وحوّلها إلى نظام حكم مغلق. هذا التحالف هو ما يمكن تسميته اليوم بـ "المثلث":
مشروع البيض، مشروع الجفري والرابطة، ومشروع الزبيدي العسكري.
كل ضلع في هذا المثلث يؤدي وظيفة محددة في إنتاج سلطة فوق الدولة.
مشروع علي سالم البيض هو ضلع "الشرعية الرمزية".
هو الذي حوّل الانفصال من موقف سياسي إلى "حق تاريخي مقدس". منذ لجوئه إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، أعاد البيض إنتاج نفسه بوصفه المرجعية النهائية للجنوب، وأعاد ربط المشروع الانفصالي بمحور طهران وحزب الله. هنا وُلدت فكرة أن الجنوب ليس وطنًا لمواطنيه، بل "قضية" يمتلكها بيت سياسي واحد، ويمنح الشرعية لمن يشاء.
بهذا المعنى، لعب البيض نفس الدور الذي يلعبه عبد الملك الحوثي في صنعاء:
مرجعية فوق السياسة، لا تُحاسَب، ولا تُنتخب، ولا تُناقَش.
مشروع الجفري و"الرابطة" هو ضلع "الغطاء السلالي والسياسي".
الرابطة لم تكن يومًا حزبًا حديثًا ولا حركة وطنية. كانت دائمًا كيانًا أسريًا، يتعامل مع الجنوب كملك تاريخي، لا كمجتمع سياسي. ومنذ خمسينيات القرن الماضي، ظل مفهوم "الجنوب العربي" عندها يعني دولة بلا يمن، وبلا مواطنة، وبلا شعب، بل "كيان خاص" تُدار رمزيته من فوق.
عندما اندلع الحراك الجنوبي في 2007، لم تدخل الرابطة لتقويته، بل لتفكيكه. استهدفت قيادات الحزب الاشتراكي، وحاولت تفريغ الحراك من عقله السياسي، لتحويله إلى جمهور بلا قيادة، يمكن توجيهه نحو مشروع السلالة. ثم انتقلت، مثل البيض، من صنعاء إلى طهران ثم إلى أبوظبي، دون أن تغيّر جوهرها: الجنوب ملك عائلي.
مشروع الزبيدي هو ضلع "القوة العسكرية".
هو الذراع التي تحوّل الرمز والسلالة إلى سلطة على الأرض. منذ حركة "حتم" في التسعينيات، مرورًا بالتدريب في لبنان وصعدة، وصولًا إلى بناء القوات الجنوبية برعاية إماراتية، ظل الزبيدي يؤدي وظيفة واحدة: إنتاج السلاح خارج الدولة، وبناء جهاز أمن واقتصاد موازٍ.
وعندما أدى اليمين محافظًا لعدن عام 2015 تعهّد بالحفاظ على الجمهورية والوحدة. لكنه في 2022، عندما دخل مجلس القيادة، رفض حتى نطق عبارة "الوحدة والنظام الجمهوري". هذا ليس تفصيلاً بروتوكوليًا، بل إعلان خروج نهائي من فكرة الدولة.
هنا يكتمل المثلث:
البيض يمنح "الحق".
الجفري يمنح "الهوية".
الزبيدي يفرض "السلطة".
وهكذا تولد السلالة السياسية الجديدة، التي لا تحتاج إلى دستور ولا انتخابات، لأنها ترى نفسها صاحبة قضية، لا طرفًا في دولة.
وهنا يصبح الجنوب نسخة أخرى من صنعاء، ولكن باسم مختلف.
كما قال الحوثي: "نحن آل البيت"، يقول هذا المثلث: "نحن أصحاب القضية".
كما بنى الحوثي دولة مشرفين، يبني هذا المثلث دولة قادة أمن ومندوبين.
كما احتكر الحوثي الجبايات، يحتكر هذا المثلث الإيرادات.
وكما جرّد الحوثي الدولة من معناها، يجرد هذا المثلث الجنوب من مفهوم المواطنة.
ولهذا كانت حضرموت هي لحظة الانكشاف.
حضرموت ليست بيئة سلالة، ولا بيئة ميليشيا، ولا جغرافيا تقبل "المشرف". هي مجتمع دولة، اقتصاد، بحر، تاريخ، ومصالح إقليمية. ولهذا اصطدم مشروع المثلث بجدار لا يستطيع كسره.
المشكلة اليوم ليست شمالًا وجنوبًا.
المشكلة هي سلالتان سياسيتان تتنازعان اليمن:
واحدة في صنعاء باسم آل البيت،
وأخرى في عدن باسم القضية والرمز.
وكلاهما لا يرى في المواطن سوى تابع، ولا يرى في الدولة سوى غنيمة.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح في معركة الوعي.