في لحظةٍ يضيق فيها الأفق، وتزدحم الساحة بالضجيج أكثر مما تحتمل الحقيقة، يصبح التفكير فعلَ شجاعة، ويغدو الحوار مسؤولية وطنية.
أن نمنح أنفسنا فرصة التفكير بما هو موجود على أرض الواقع، لا كما يُراد لنا أن نراه، وألّا ننخدع بالفرص الظاهرة أو نستعجل اللحظة والإجراءات. فالمعوقات ليست قدرًا محتومًا، بل نتاج سياسات طال أمدها، وخيارات، وأصوات تعلو لتُخفي ما تحتها. وتجاوز هذه المعوّقات لا يكون بالقفز فوقها، ولا بتدميرها على نحو مستعجل.
إنّ المدخل الأول لأي خلاص ممكن ينبغي أن يتم عبر حوار مسؤول يفوّت الفرصة على الخارج الذي يتغذّى من انقساماتنا ويستثمر في عجزنا عن الإصغاء.
اليمن اليوم، بما يحمله من جراح مفتوحة وتجربة قاسية، يقدّم درسًا بليغًا لمن أراد أن يتعلّم. سنوات من الصراع لم تبدأ من فراغ، ولم تستمر من دون محرّك. فغياب الحوار الداخلي، وتحول الخلاف السياسي إلى كسر عظم، أوجد للخارج طريقًا معبّدًا. وحين انشغل الداخل بتبادل الاتهامات، وتخوين النوايا، وتقديس السرديات الخاصة، صارت الحقيقة أول الضحايا.
لم يكن الخارج أقوى من الداخل، بل كان الداخل أكثر هشاشة، وأكثر استعدادًا لتسليم قراره حين استنفد فرص التقارب بيده.
اليوم، تبدو إمكانية الكتابة نفسها عصيّة على التعليق، لا لأن الوقائع شحيحة، بل لأن كثافة المغالطات السردية والمبالغة تغرق المشهد. معلومات متداولة تُصاغ بعناية لتضليل الشارع السياسي، وترويع المواطن العادي، وإشاعة شعور عام باليأس، وبأن لا أمل يلوح في الأفق القريب ولا مخرج، إضافة إلى منصات إعلامية تحولت من فضاءات للنقاش إلى ساحات للشتم والقدح والتخوين، حيث يُكافأ الصوت الأعلى لا الأصدق، ويُقصى السؤال العاقل لصالح الهتاف الأجوف. في هذا المناخ، يصبح إنصاف الحقائق مهمة شاقة، ويغدو البحث عن حل، أو حتى فتح ثغرة للمعرفة، ضربًا من السباحة عكس تيار جارف.
الأخطر من ذلك أن الأطراف، في كثير من الحالات، لا تريد أن تسمع إلا صدى صوتها. فكل طرف يبني جدارًا من اليقين حول نفسه، ويغلق النوافذ أمام أي رأي مخالف. وهذا بالضبط ما يريده الخارج: أطراف تابعة، صمّاء، مستنزفة، عاجزة عن التقارب، حتى إذا ما استنفدت كل الفرص الداخلية، جاء "الحل" من الخارج كما يُراد له، وعلى الجميع القبول به. عندها لن يعود السؤال: هل هذا الحل عادل؟ بل: لماذا وصلنا إلى لحظة لا يصبح فيها قبول القرار الخارجي خيارًا، بل اضطرارًا؟
تجربة بلادنا تؤكد أننا ماضون نحو حلول وتسويات مفروضة ستتحول إلى عبءٍ مستقبلي. فالتسويات التي لا تنبع من الداخل تظل هشة وقابلة للانفجار عند أول اختبار. وتذكرنا أيضًا بأن الحوار، مهما تأخر، أقل كلفة من القطيعة، وأن الاعتراف بالواقع لا يعني الاستسلام له، بل فهمه تمهيدًا لتغييره. لا أحد يطالب بالتنازل عن المبادئ، بل بالتنازل عن أوهام الإقصاء الكامل، وعن اعتقاد ساذج بأن الوطن يمكن أن يُدار بصوت واحد أو بمنطق غلبة القوة.
تقاربوا، أيها الأطراف. فالقضية التي توحدكم أكبر من خلافاتكم، والوطن الذي يجمعكم أوسع من خنادقكم. افتحوا مساحات للحوار، والاتفاق على مرحلة انتقالية، وامنحوا أنفسكم مساحة للإنصات قبل الرد، وللتفكير قبل الاتهام. واغتنموا الفرص المتاحة، وإن كانت الفرصة الأخيرة لالتقاط ما تبقى من المبادرة، قبل أن يتحول ما ينبغي أن يكون درسًا نتأمل فيه الذهاب نحو الأمام إلى مرآة نرى فيها مستقبلنا وبلادنا بلا ملامح. فوّتوا الفرصة على الخارج؛ فالتاريخ لا يرحم من أضاع الفرص، ولن يعفي من سلّم قراره طواعية، وحينئذٍ لن ينفع لوم الذات بعد التفريط بالمواقف والوطن، كما لن ترحمنا قسوة الوصاية وتبعاتها.