شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
التقارب السعودي – العُماني: من صفقة الأسرى إلى إعادة هندسة السلام في اليمن
حين تتحوّل الجغرافيا العاقلة إلى سياسة
في إقليمٍ أنهكته الحروب بالوكالة وتنازعته مشاريع النفوذ، يبرز التقارب السعودي – العُماني بوصفه تحولاً نوعياً لا في شكل العلاقات الثنائية فحسب، بل في فلسفة إدارة الصراع الإقليمي.
لم يكن هذا التقارب مجرّد تلاقٍ دبلوماسي، بل أصبح أداة استراتيجية أعادت تحريك ملفات يمنية شديدة الجمود، وفي مقدمتها صفقة الأسرى، التي شكّلت مدخلاً إنسانياً محسوباً لإعادة إحياء خارطة الطريق نحو السلام في اليمن.
أولاً: صفقة الأسرى… حين ينجح التدرّج حيث فشل الضغط
لم تكن صفقة الأسرى نتاج لحظة إنسانية عاطفية، بل نتيجة هندسة سياسية هادئة:
• السعودية أعادت تعريف أولوياتها من إدارة حرب طويلة إلى البحث عن تسوية تحمي أمنها القومي وتُنهي الاستنزاف.
• عُمان قدّمت نموذج الوسيط الإقليمي غير المؤدلج، القادر على مخاطبة جميع الأطراف دون فقدان الثقة.
هذا التلاقي منح الصفقة ضمانات تنفيذية حقيقية، وحوّلها من حدث إنساني إلى اختبار عملي لإمكانية الانتقال من التهدئة إلى التسوية.
ثانياً: إحياء خارطة الطريق… من النص الجامد إلى المسار الحي
أعادت الصفقة الاعتبار لمبدأ أن السلام لا يُفرض دفعة واحدة، بل يُبنى عبر خطوات قابلة للحياة. وقد تجلّى ذلك في:
• عودة الخطاب الإقليمي إلى فكرة الحل الشامل بدل إدارة الصراع.
• ربط الملفات الإنسانية والاقتصادية بالمسار السياسي.
• إعادة تموضع الأمم المتحدة بدعم إقليمي منسجم لا متنافس.
بهذا المعنى، لم يُحيِ التقارب السعودي – العُماني خارطة الطريق فحسب، بل حرّرها من مثاليتها المعطّلة.
ثالثاً: المهرة وحضرموت… حين يصبح الأمن القومي غير قابل للتأويل
مثّل التوافق السعودي – العُماني حول المهرة وحضرموت حجر الزاوية في هذا المسار، بوصفهما:
• عمقاً استراتيجياً مباشراً للأمن القومي السعودي.
• الامتداد الجغرافي والأمني الطبيعي لسلطنة عُمان.
• ركيزتين لا غنى عنهما لوحدة اليمن واستقراره.
من هنا، لم يكن التمدد العسكري للمجلس الانتقالي المدعوم إماراتياً في هاتين المحافظتين مجرد خلاف سياسي، بل تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي، ما استدعى تحركاً منسّقاً أفضى إلى تحجيم النفوذ المليشياوي وإجبار الانتقالي على التراجع، عبر أدوات سياسية وشرعية لا عبر المواجهة المفتوحة.
رابعاً: تحجيم النفوذ الإماراتي… إعادة ضبط لا إعادة صراع
قد يجادل البعض بأن هذا المسار يستهدف الإمارات، إلا أن الواقع يشير إلى غير ذلك. فالمسألة لا تتعلّق بصراع دول، بل بـ:
• رفض تكريس الكيانات المسلحة خارج إطار الدولة.
• منع تفكيك اليمن إلى مناطق نفوذ متناحرة.
• إعادة الاعتبار لمنطق الدولة على حساب المليشيا.
وعليه، فإن ما جرى هو إعادة ضبط للمعادلة اليمنية، لا قطيعة إقليمية، ورسالة واضحة بأن الاستقرار لا يُبنى عبر الوكلاء المسلحين.
خامساً: الرأي المقابل… ولماذا يتهاوى
يرى منتقدو هذا المسار أن التفاهمات المرحلية تمنح جماعات الأمر الواقع فرصة لترسيخ نفوذها.
غير أن هذا الطرح يغفل حقيقة جوهرية:
أن استمرار الحرب هو البيئة المثالية لترسّخ المليشيات، بينما التهدئة المنضبطة تُضيّق هامش المناورة، وتفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة.
الفرق هنا ليس بين سلام وحرب، بل بين فوضى مستدامة وتسوية قابلة للتطوير.
الخلاصة :
٠ سلام ممكن… لأن الجغرافيا قرّرت أن
تتكلم
٠ سلام ممكن… ليس لأنه سهل، بل لأن الجغرافيا العقلانية تتحرك، فتتراجع المليشيا وتقترب الدولة من السلام.
التقارب السعودي – العُماني لا يقدّم وعوداً مثالية، لكنه يقدم ما هو أكثر استراتيجية:
• سلام ممكن، تدريجي، متدرّج، ومحصّن برعاية إقليمية وواقعية.
• سلام يحدّ من المليشيات، يرسّخ سيادة الدولة اليمنية، ويحمي أمن الجوار من أي نزاع قائم أو مستقبلي.
حين تتقدم الجغرافيا العقلانية، تنكسر هيمنة الفوضى، وتنجلي معالم السلام، وتتحول اليمن من ملعب للصراع الإقليمي إلى مساحة لإدارة الاستقرار والمسؤولية.