من تحت الركام… الشعب يقول كلمته: لا لحربكم، نعم لثورتنا
عبدالعزيز ابوعاقلة
لم يكن التاسع عشر من ديسمبر استدعاءً لذكرى، بل تأكيدًا على حقيقة تاريخية راسخة: الثورات لا تُقاس بلحظات الانفجار، بل بقدرتها على الاستمرار وتراكم الوعي. خرج الشباب والشابات في بورتسودان، ومدني، والخرطوم، وأمدرمان ومدن السودان الأخرى، كما خرجوا في المنافي والشتات، ليعلنوا رفضهم القاطع لحربٍ ليست حربهم، ولسلطاتٍ تحاول إعادة إنتاج نفسها بالعنف والتخويف. خرجوا رغم أن الحرب لم تنتهِ، لأنهم أدركوا أن الصمت أخطر من الرصاص، وأن هذه ليست حرب الشعب،
هذه الحرب اللعينة ، التي شرّدت الملايين وصنعت أكبر موجة نزوح في تاريخ السودان، لم تكن سوى أداة بيد العسكر والحركة الإسلامية لإجهاض مسارٍ ثوري بدأ قبل سنوات . ومع ذلك، فشلت في تحقيق هدفها الأعمق: كسر الوعي. فالتاريخ يعلمنا أن الأنظمة الاستبدادية قد تربح معارك القمع، لكنها تخسر معركة الزمن.
الثورة الفرنسية احتاجت ما يقارب عقدًا كاملًا من الصراع، بين انتفاضات وانتكاسات، تحالفات وانشقاقات، قبل أن تُسقط نظام الإقطاع وتُنهي شرعية الحكم المطلق. لم يكن انتصارها نتاج لحظة غضب، بل ثمرة تراكم فكري وسياسي أعاد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ورسّخ مبدأ أن السيادة للشعب لا للسلالة ولا للسيف.
وفي روسيا، لم تسقط القيصرية بانفجار واحد، بل عبر مسار طويل بدأ بثورة 1905، مرّ بالقمع والنفي والمجازر، قبل أن يصل إلى لحظة 1917. عشرات السنين من التنظيم، والوعي الطبقي، والعمل وسط الجماهير كانت شرطًا لازمًا لتحطيم نظامٍ بدا يومًا عصيًا على السقوط. الدرس هنا واضح: الاستبداد لا ينهار بالصدفة، بل عندما تفقد السلطة قدرتها على إقناع المحكومين بشرعيتها.
أما في جنوب أفريقيا، فقد احتاج إسقاط نظام الفصل العنصري إلى أكثر من أربعة عقود من النضال المتواصل، بين العمل الجماهيري، والتنظيم السياسي، والعقوبات الدولية، والصبر الأخلاقي الذي منع الثورة من التحول إلى حرب إبادة. لم يكن النصر سريعًا، لكنه كان عميقًا، لأنه استند إلى وعي جمعي راسخ بأن الحرية لا تُجزّأ ولا تُؤجَّل إلى الأبد.
هذه التجارب ليست للتزيين الخطابي، بل لفهم موقعنا التاريخي. ثورة ديسمبر، هذه الثورة المتجذرة في وجدان الشارع السوداني، ليست استثناءً عن قوانين التاريخ. هي مسار طويل، تتقدم أحيانًا وتتراجع أحيانًا أخرى، لكنها لا تنكسر. كل انقلاب، وكل حرب، وكل محاولة تخويف، ليست إلا دليلاً على أن الثورة أصابت بنية السلطة في جوهرها.
في هذا السياق، كان خروج التاسع عشر من ديسمبر رسالة مزدوجة: رسالة وفاء لأمهات الشهداء وأسرهم بأن القصاص قادم لا محالة، وأن العدالة ليست مطلبًا أخلاقيًا فحسب، بل شرطًا لإعادة بناء الدولة؛ ورسالة تحدٍ للعسكر والحركة الإسلامية بأن أدواتهم القديمة لم تعد صالحة. التخويف، وصناعة الرعب، وتديين السياسة، كلها وسائل استُهلكت وفقدت قدرتها على إخضاع هذا الجيل.
كما أن خروج السودانيين في الداخل والخارج أكد أن الثورة تجاوزت حدود الجغرافيا، وأن الوعي لم يعد محصورًا في شارع واحد أو مدينة واحدة. هذا الامتداد هو ما تخشاه السلطات، لأنه يعني أن الثورة لم تعد حدثًا يمكن احتواؤه، بل فكرةً عصية على القمع.
وكما هُزم الإقطاع في فرنسا، وسقطت القيصرية في روسيا، وانكسر نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، سيسقط حكم العسكر والكيزان في السودان. ليس لأنهم أضعف بالضرورة، بل لأنهم يقفون في مواجهة شعب قرر أن يصبر، وأن يراكم وعيه، وأن يمضي حتى النهاية ضد الاستبداد والظلم .
من تحت الركام، ومن شوارع الداخل، ومن ميادين الخارج، يواصل الشعب تأكيد معادلته التاريخية البسيطة: لا لحربكم، لا لحكم العسكر، لا للحركة الإسلامية المستبدة ، نعم للحرية والعدالة والسلام العادل ونعم لثورة تعرف أن النصر ابنُ المثابرة، لا وليد الصدفة. عبدالعزيز ابوعاقلة azizabuaglah@gmail.com