شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
حضرموت والمهرة:
إعادة تشكيل النفوذ في شرق اليمن
بين صراع التحالفات الإقليمية والمصلحة اليمنية العليا
⸻
مقدمة تحليلية:
يشهد اليمن في مرحلته الراهنة تحوّلاً بنيوياً في طبيعة الصراع، حيث لم تعد خطوط المواجهة تُرسم وفق ثنائية الحرب والسلام، بل باتت تتشكل ضمن فضاء أكثر تعقيداً تحكمه إدارة النفوذ، ضبط الفاعلين المحليين، وإعادة توزيع الأدوار الإقليمية.
وفي هذا السياق، برز شرق اليمن – وتحديداً حضرموت والمهرة – بوصفه المسرح الأهم لإعادة هندسة التوازنات، ليس فقط بين أطراف الصراع اليمني، بل بين أطراف التحالف العربي أنفسهم.
غير أن خطورة هذه المرحلة لا تكمن فقط في صراع المصالح الإقليمية، بل في غياب تعريف يمني جامع للمصلحة الوطنية العليا، ما حوّل اليمن من فاعل سياسي محتمل إلى موضوع صراع تُدار جغرافيته وفق حسابات الآخرين.
الاجتماع السعودي – العُماني الأخير في مسقط لا يمكن قراءته كحدث دبلوماسي معزول، بل كمؤشر على انتقال الصراع من طور التدخل العسكري إلى طور الاحتواء الاستراتيجي طويل الأمد، حيث تتقاطع اعتبارات الأمن القومي، الاقتصاد السياسي، والهوية المحلية في مشهد بالغ الحساسية.
⸻
أولاً: التحولات الإقليمية وانعكاساتها على شرق اليمن
1- السعودية والإمارات: من شراكة الضرورة إلى تنافس النفوذ المُدار
منذ انطلاق التحالف العربي عام 2015، تشكّل التقارب السعودي – الإماراتي بوصفه تحالفاً عملياتياً فرضته ضرورات الحرب لا وحدة الرؤية.
ومع تعقّد المشهد، تمايزت الأولويات بوضوح:
• السعودية: تأمين الحدود، منع انهيار الدولة اليمنية، واحتواء التهديدات العابرة للحدود.
• الإمارات: بناء نفوذ بحري – اقتصادي طويل الأمد عبر السيطرة على الموانئ وخطوط التجارة، وتوظيف أدوات محلية مكتملة الوظيفة السياسية والأمنية.
في هذا السياق، مثّل المجلس الانتقالي الجنوبي الذراع الأكثر فاعلية للمشروع الإماراتي في الجنوب، إلا أن محاولة تمديد هذا النموذج إلى شرق اليمن (حضرموت والمهرة) اصطدمت بعوامل معيقة:
بنية محلية - قبلية مستقلة، حساسية جغرافية متصلة بأمن السعودية وعُمان، وكلفة سياسية مرتفعة لأي صدام مباشر.
وهكذا، انتقلت العلاقة بين الرياض وأبوظبي من التنافس المفتوح إلى احتواء متبادل دون حسم، حيث يسعى كل طرف إلى تعظيم مكاسبه دون تفجير التحالف.
⸻
2- عُمان: الجغرافيا بوصفها سياسة خارجية
تلعب سلطنة عُمان دوراً فريداً في شرق اليمن، حيث تتحول الجغرافيا إلى محدد استراتيجي مباشر.
فالمهرة لا تُقرأ في مسقط كمجرد محافظة يمنية، بل كامتداد أمني واجتماعي متداخل.
تعتمد عُمان مقاربة قائمة على:
• منع عسكرة المهرة
• تعطيل أي تمدد انتقالي أو إماراتي مباشر
• تحويل التهديدات الأمنية إلى ملفات دبلوماسية قبل تحولها إلى مواجهات ميدانية، ويعكس التقارب العُماني – السعودي في هذا الملف تقاطع مصالح ظرفي عميق، لا تحالفاً تقليدياً، هدفه ضبط شرق اليمن لا السيطرة عليه.
⸻
3- قطر: لاعب توازن منخفض الكلفة
رغم غيابها الميداني، تمارس قطر نفوذاً غير مباشر عبر المال والإعلام والوساطة السياسية، ما يمنحها قدرة على التأثير في السرديات الإقليمية دون تحمّل كلفة السيطرة المباشرة.
قوتها تكمن في المرونة وتجنب الاحتكاك الجغرافي.
⸻
ثانياً: حضرموت والمهرة كعُقدة جيوسياسية
1- حضرموت: الإقليم الذي لا يُدار بالقوة الصلبة
تمثل حضرموت قلب شرق اليمن اقتصاداً وإستراتيجياً:
• ثروات نفطية ومالية
• واجهة بحرية على بحر العرب
• مجتمع قبلي يرفض الهيمنة الخارجية المباشرة
إن السيطرة على حضرموت لا تعني إخضاعها عسكرياً، بل إدارة توازناتها المعقدة، وهو ما فشلت فيه المقاربات الصلبة حتى الآن.
⸻
2- المهرة: خط أحمر سيادي
المهرة تُعد منطقة حساسة للأمن القومي العُماني، وأي تغيير قسري في بنيتها السياسية أو الأمنية يُقرأ كتهديد مباشر، ما يرفع كلفة أي محاولة لفرض نفوذ خارجي فيها.
⸻
ثالثاً: أدوات النفوذ المحلية وحدود فعاليتها
1- المجلس الانتقالي الجنوبي
رغم قوته في عدن وأجزاء من الجنوب الغربي، يواجه الانتقالي في الشرق:
• ضعف الشرعية الاجتماعية
• مقاومة قبلية لأي مركزية قسرية
ما يجعل تمدده محفوفاً بالمخاطر.
⸻
2- القبائل: مركز الثقل الحقيقي
تشكل القبائل في حضرموت والمهرة العامل الحاسم في أي معادلة استقرار، ولذلك اعتمدت السعودية وعُمان مقاربة اقتصادية – تنموية لاحتواء القبائل بدل الدخول في مواجهات مفتوحة.
⸻
رابعاً: المصلحة اليمنية العليا – من الغياب إلى الاستعادة
1- أزمة غياب المصلحة الوطنية
أحد أخطر تداعيات الحرب اليمنية هو تفكك مفهوم “المصلحة الوطنية”، وتحوله إلى مصالح مناطقية وفئوية.
ونتيجة لذلك، لم تعد اليمن طرفاً فاعلاً في الصراع، بل ساحة تُدار من الخارج.
⸻
2- تعريف عملي للمصلحة اليمنية العليا
المصلحة اليمنية العليا تُختصر في خمسة محددات استراتيجية:
1. استعادة القرار السيادي: لا دولة بلا قرار سياسي وأمني مستقل.
2. تحييد الجغرافيا عن صراعات المحاور:
رفض تحويل الشرق والجنوب إلى مناطق عازلة لصالح الآخرين.
3. بناء دولة لامركزية قوية: لامركزية إدارية وسياسية ضمن إطار سيادي موحد.
4. حماية الثروة الوطنية: رفض تدويل الموارد تحت غطاء الحماية أو الاستثمار.
5. دمج القبيلة في مشروع الدولة: كشريك استقرار لا كبديل سلطوي.
⸻
3- مع من تتقاطع مصلحة اليمن؟
المصلحة اليمنية لا تكمن في الارتهان لمحور إقليمي ضد آخر، بل في:
• شراكة أمنية منضبطة مع السعودية
• تفاهم استراتيجي مع عُمان
• علاقة اقتصادية متوازنة مع الإمارات
• انفتاح دبلوماسي عقلاني مع الجميع
بلا قواعد دائمة، وبلا وكلاء مسلحين.
⸻
خامساً: السيناريوهات الاستراتيجية المحتملة
1.الاحتواء الذكي (الأرجح)
• تجميد التمدد وعودة الانتقالي
• تعزيز النفوذ غير العسكري
• إدارة الاستقرار بدل فرضه بالقوة
٠ صلاحيات واسعة للمحافظ والادارة المحلية
2. صدام منخفض الشدة
• اشتباكات محدودة
• صراعات محلية بالوكالة
• دون حرب شاملة
3. صفقة إقليمية
• حضرموت بإدارة شبه مستقلة برعاية سعودية – عُمانية
• المهرة ضمن النفوذ العُماني
• تقاسم نفوذ يضمن الاستقرار النسبي
4. السيناريو التفجيري
• فرض سيطرة انتقاليّة كاملة
• صدام مع الرياض ومسقط
• فتح المجال لتدخلات أوسع
⸻
سادساً: التقييم الاستراتيجي الشامل
• الإمارات: حققت مكاسب ميدانية، لكنها مقيدة بسقف الجغرافيا والسياسة.
• السعودية: تضبط الإيقاع دون اندفاع نحو الحسم.
• عُمان: لاعب استقرار يحوّل الأمن إلى دبلوماسية.
• اليمن: ما زال ساحة، لكنه يملك مقومات التحول إلى لاعب.
• القبائل: مفتاح الاستقرار أو التفجير.
⸻
الخلاصة السيادية:
إن ما يجري في حضرموت والمهرة يؤكد أن الصراع في اليمن دخل مرحلته الأكثر تعقيداً:
مرحلة إدارة النفوذ لا انتزاعه.
غير أن هذه المرحلة تحمل في طياتها فرصة نادرة لليمنيين للمصالحة الوطنية، وإعادة تعريف موقعهم، من ساحة صراع إلى دولة تفاوض.
فاليمن لا يحتاج إلى راعٍ إقليمي،
بل إلى عقد مصالح متوازن يعيد للقرار السيادي معناه، وللجغرافيا قيمتها، وللدولة حضورها.