بحث

السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل (5/4)

عبد العزيز ابوعاقلة

 

السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل (5/4)                                                                           عبدالعزيز ابوعاقلة 

عندما تلبّست السياسة بالدين… وتحولت الدولة ومليشياتها  إلى سلاح ضد شعبها

لم تُدمَّر السياسة في السودان بالقوة وحدها، بل بالتزييف. تزييف معناها، وتزييف أدواتها، وتزييف شعاراتها. فمنذ وقت مبكر، لم تُترك السياسة لتكون مجالاً عاماً لإدارة الاختلاف، بل جرى اختطافها إما بالدبابة والبندقية ، أو بالمنبر، أو بكليهما معاً. وهنا تبدأ المأساة الحقيقية: حين تتحول السياسة إلى عقيدة، والعقيدة إلى سلاح، والدولة إلى غنيمة.

لم يكن تديين السياسة في السودان تعبيراً عن تدين المجتمع، بل كان مشروع سلطة. فالدين لم يُستدعَ لإنتاج قيم  الحرية العدالة أو المساواة، بل لتبرير الإقصاء، وتأبيد الحكم، وتحريم الاختلاف. ومنذ انقلاب 1989 المشؤوم ، دخل السودان مرحلة جديدة: لم يعد الصراع على السلطة صراع برامج، بل صراع “حق إلهي” مزعوم، تُستباح فيه الدولة باسم الشريعة، ويُقمع فيه المجتمع باسم الفضيلة.

يقول الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا:
«أخطر أشكال الاستبداد هو الذي يُمارَس باسم الخلاص.»
وهذا ما فعلته الحركة الإسلامية: قدّمت نفسها كطريق نجاة، بينما كانت تؤسس لأطول وأعمق عملية تدمير ممنهج للدولة والمجتمع معاً.

لكن تديين السياسة لم يكن كافياً وحده. فلكي يستمر، كان لا بد من عسكرة الدين، وتديين الجيش، ثم—وهذا الأخطر—تفكيك احتكار الدولة للعنف عبر صناعة المليشيات. لم يعد السلاح حكراً على مؤسسة وطنية، بل توزّع على قوى موازية، أُنشئت عمداً لتكون خارج المساءلة، وداخل الولاء. هكذا لم تعد الدولة مركز العنف، بل مجرد مدير لفوضاه.

استخدام المليشيات ضد مواطنين الدولة لم يكن فشلاً للدولة، بل خياراً واعياً. فالمليشيا لا تخضع للقانون، ولا للتقاليد العسكرية، ولا للعقد الاجتماعي. إنها أداة مثالية لحكم بلا مسؤولية، وعنف بلا محاسبة. وبمرور الوقت، لم تعد هذه المليشيات استثناءً، بل أصبحت جزءاً من بنية الحكم نفسها، تتغذى على الحرب، وتعيش من اقتصادها، وتخاف من السلام لأنه يفضح وظيفتها.

في هذا المناخ، لم تكن الثورات السودانية—من أكتوبر1964  إلى أبريل1985، ومن ديسمبر 2018إلى ما بعدها—مشكلة للنظام فقط، بل أيضاً للنخب السياسية التي ادّعت تمثيلها. فالثورة، بطبيعتها، تطرح سؤالاً أخلاقياً قبل أن تطرح سؤال السلطة: من يملك الحق؟ ومن يمثل من؟ وهذه أسئلة لم تكن النخب مستعدة للإجابة عليها.

لذلك جرى دوما الالتفاف على الثورات لا قمعها فقط. سُرقت شعاراتها، فُرّغت مطالبها، وأُعيد تدوير رموز قديمة بلغة جديدة. ( استنساخ أشخاص )تحوّل “المدني” إلى شعار بلا مضمون، و“الانتقال” إلى مرحلة بلا نهاية، و“الشراكة” إلى غطاء لعودة العسكر من الباب الخلفي. لم يكن هذا سذاجة سياسية، بل تواطؤاً واعياً: نخبة تخشى الثورة بقدر ما تخشى الدبابة.

يقول أنطونيو غرامشي:
«الأزمة تحدث عندما يعجز القديم عن الموت، ويعجز الجديد عن الولادة.»
وهذا بالضبط ما عاشه السودان بعد كل ثورة. لا النظام القديم سقط بالكامل، ولا الدولة الجديدة وُلدت. وبين هذا وذاك، تمددت العسكرة، وتعمّق التديين، وترسّخت المليشيا كحقيقة سياسية. وعسكرية .

ثلاثون عاماً من حكم الحركة الإسلامية لم تؤخر التحول الديمقراطي فقط، بل شوّهت معنى الدولة نفسه. أُفرغت المؤسسات، أُعيد تعريف الوطنية، جرى خلط الدين بالسيادة، والأمن بالعقيدة، والمعارضة بالخيانة. وعندما سقط النظام شكلياً، بقيت بنيته العميقة حاضرة: في الجيش، في الاقتصاد، في الخطاب، وفي الخوف من السياسة الحرة.

وهكذا، لم تكن الحرب الراهنة الان  قطيعة مع الماضي، بل ذروته. نتيجة منطقية لدولة عسكرت السياسة، وديّنت الصراع، وفككت نفسها عبر المليشيات، ثم تساءلت بغباء وبدهشة: كيف خرج العنف عن السيطرة؟

المأساة أن الدولة التي استخدمت السلاح لتأبيد حكمها، لم تعد قادرة على نزعه. والسياسة التي استُبدلت بالعقيدة، لم تعد قادرة على التفاوض. والنخب التي راهنت على الجيش ضد الشارع، وجدت نفسها بلا شارع ولا دولة.

ما لم يُفك هذا الاشتباك القاتل—بين الدين والسياسة، بين الجيش والدولة،وبين الجيش والمليشات  التي صنعتها وفلتت منها وبين الثورة والنخبة—فإن كل محاولة خلاص ستظل مؤجلة. لأن السودان لا يعاني فقط من انقلاب أو حروب بل من تشوه عميق في بناء الدولة ومعنى السياسة  .   ( نواصل  )                                                    عبدالعزيز ابوعاقلة                                                                       
 azizabuaglah@gmail.com

آخر الأخبار