بحث

اليمن بين منطق الجغرافيا ومنطق الدولة

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

اليمن بين منطق الجغرافيا ومنطق الدولة

قراءة نقدية وطنية في مقاربة الأزمة اليمنية على ضوء مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد

يثير مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد المعنون (الانتقالي فتح عشّ الانفصاليين) نقاشاً مهماً حول دور الفاعلين المحليين وحدود تأثيرهم في اليمن، غير أن المقاربة التي ينطلق منها المقال، رغم واقعيتها السياسية الظاهرة، تختزل الأزمة اليمنية في بعدها الجغرافي والإقليمي، وتتعامل مع اليمن بوصفه ساحة نفوذ أكثر منه دولةً ذات تاريخ حضاري وسياسي ومجتمع متماسك أُنهك بفعل اختلالات بنيوية متراكمة.

إن اليمن، في جوهر أزمته، لا يعاني من فائض سياسة، بل من غياب الدولة، ولا يفتقر إلى الجغرافيا، بل إلى عقد وطني عادل يُحسن إدارة التنوع ويمنع تحويله إلى صراع.

لا شك أن الجغرافيا تؤثر في السياسة، لكنها لا تُنتج شرعية ولا تبني دولاً. 
فالتاريخ الحديث حافل بدول فرضت حضورها رغم هشاشة موقعها، وأخرى تفككت رغم عمقها الجغرافي. واليمن لم يصل إلى حالته الراهنة بسبب موقعه، بل بسبب فشل نُخبه المتعاقبة في تحويل الوحدة من حدث سياسي إلى مشروع دولة جامعة، قادرة على استيعاب الاختلاف وضمان العدالة.

إن تحويل الجغرافيا إلى " حقيقة السياسة الوحيدة " يُفضي إلى تبرير الإخفاق الداخلي بوصفه قدراً خارجياً، ويُضعف أي محاولة جادة للمساءلة الوطنية.

إن وحدة الأرض والمصير اليمني ليست شعاراً سياسياً ولا موقفاً عاطفياً، بل حقيقة تاريخية وأمنية واجتماعية. 
فجميع محاولات الانقسام، سواء قبل الوحدة أو بعدها، لم تُنتج استقراراً، بل أعادت إنتاج الهشاشة بأشكال مختلفة.

التعامل مع الجنوب أو الشمال كمسارين سياسيين منفصلين عن المصير الوطني الواحد لا يحل الأزمة، بل يؤجل انفجارها في صيغ أكثر تعقيداً. 
فالمشكلة لم تكن يوماً في الوحدة ذاتها، بل في غياب الدولة العادلة داخلها.

يصيب النقد حين يتناول عسكرة السياسة وتغليب منطق القوة، لكنه يصبح إشكالياً حين ينتقل من نقد الأداء إلى نزع المشروعية عن القضايا. 
فالقضية الجنوبية، كما قضايا صعدة أو تهامة أو غيرها، ليست اختراعاً سياسياً، بل تعبير عن اختلالات هيكلية في الدولة اليمنية.

إن معالجة هذه القضايا بوصفها تهديدات أمنية، لا مطالب سياسية، يحدّ من فرص دمجها في مشروع وطني جامع، ويُبقي البلاد رهينة منطق الغلبة لا منطق الشراكة.

في هذا السياق، يغيب عن كثير من التحليلات التذكير بأهم مرجعية توافقية يمنية حديثة: مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل. 
فقد توافق اليمنيون، شمالاً وجنوباً، على نموذج دولة اتحادية مدنية، تقوم على تقاسم عادل للسلطة والثروة، وتمنح الأقاليم حق إدارة شؤونها المحلية بصورة كاملة.

إن هذا النموذج لم يكن تنازلاً سياسياً ظرفياً، بل معالجة بنيوية لأزمة الدولة المركزية. 
ومن هذا المنطلق، فإن حق أبناء حضرموت والمهرة، وسائر الأقاليم، في إدارة شؤونهم المحلية كاملةً، لا يمثل خروجاً على الدولة، ولا تهديداً لوحدة الأرض والمصير، بل تجسيداً عملياً لما تم التوافق عليه وطنياً.

الدولة الاتحادية العادلة لا تُقاس بقوة المركز، بل بقدرتها على تمكين الأطراف، وضمان شراكة حقيقية في القرار والتنمية.

لا يمكن فهم تفكك الدولة اليمنية بمعزل عن التدخلات الخارجية غير المؤسسية، وفي مقدمتها الآليات التي مورست عبر ما عُرف تاريخياً بـ" اللجنة الخاصة ". 
فقد أسهمت هذه الآليات، عبر شراء الولاءات وتمويل النخب التقليدية، في إضعاف المؤسسات الرسمية، وتحويل السياسة إلى اقتصاد مصالح شخصية مرتبط بالخارج أكثر من ارتباطه بالمجتمع.

وبدل دعم نشوء نخب وطنية مستقلة، جرى تكريس مراكز قوى موازية للدولة، ما أدى إلى تفكيك مفهوم المواطنة، وتعطيل تشكل عقد وطني جامع، وتحويل اليمن إلى ساحة صراع شبكات نفوذ متداخلة.

إن الإشارة إلى هذا الدور لا تنطلق من خطاب عدائي، بل من مراجعة نقدية ضرورية، لأن نتائج السياسات – لا النوايا – هي ما يُقاس عليه أثر التدخلات.

إن الدولة الاتحادية المدنية العادلة لا تمثل حلاً يمنياً داخلياً فحسب، بل تشكل ضمانة حقيقية للأمن والاستقرار في اليمن، ولجواره الإقليمي، وللمجتمع الدولي. 
فالدولة المستقرة داخلياً هي وحدها القادرة على ضبط حدودها، ومنع تحول أراضيها إلى منصات تهديد عابر للحدود، أو ساحات صراع بالوكالة.

يمثل اليمن أحد المفاتيح الجيوسياسية لأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم. 
وقد أثبت غياب الدولة اليمنية الفاعلة أن عسكرة السواحل وتسييس الممرات البحرية لا يهددان اليمن وحده، بل يضربان أمن التجارة العالمية وسلاسل الإمداد.

إن إعادة بناء الدولة اليمنية على أسس اتحادية عادلة، تضمن شراكة الأقاليم وتمكين السلطات المحلية ضمن إطار وطني جامع، تمثل شرطاً أساسياً لاستعادة السيطرة المؤسسية على السواحل والموانئ، وضمان أمن الملاحة الدولية. 
ومن هذا المنطلق، فإن دعم مسار سياسي يمني قائم على الشراكة واللامركزية ليس خياراً أخلاقياً، بل ضرورة استراتيجية للأمن الإقليمي والدولي.

في إطار الدولة الاتحادية المدنية العادلة التي توافق عليها اليمنيون، لا تكتسب أي قوة سياسية أو عسكرية شرعيتها من قدرتها على فرض الأمر الواقع، بل من التزامها بالبنية الدستورية المتوافق عليها. 
ومن هذا المنطلق، فإن وجود أي تشكيل عسكري تابع لإقليم بعينه خارج نطاقه الجغرافي، كما هو الحال في حضرموت والمهرة، يمثل إشكالية وطنية لا يمكن تبريرها بمنطق الشراكة ولا بمنطق الأمن.

إن حضرموت والمهرة ليستا ساحة نفوذ، ولا فراغاً سياسياً أو أمنياً، بل أقاليم ذات خصوصية تاريخية واجتماعية، ومن حق أبنائهما، وفق مخرجات الحوار الوطني، إدارة شؤونهم الأمنية والإدارية بصورة كاملة محلياً، ضمن إطار الدولة الاتحادية. 
وأي وجود مسلح من خارج الإقليم، مهما كانت مبرراته، يقوّض الثقة، ويُضعف فرص بناء سلطة محلية شرعية، ويفتح الباب أمام صراعات لا تخدم وحدة الأرض والمصير اليمني.

وعليه، فإن انسحاب القوات غير المحلية من حضرموت والمهرة، وإحلال ترتيبات أمنية محلية مهنية خاضعة لسلطة الدولة الاتحادية، لا يمثل تنازلاً سياسياً لأي طرف، بل خطوة ضرورية لإعادة الاعتبار لمنطق الدولة، ومنع عسكرة الخلافات السياسية، وتحصين هذه الأقاليم من الانزلاق إلى صراعات بالوكالة.

إن الأزمة اليمنية ليست أزمة جغرافيا، ولا أزمة فاعل بعينه، بل أزمة دولة لم تُستكمل. 
وأي مقاربة تُعيد إنتاج اليمن بوصفه مساحة نفوذ لا وطناً، ستظل قاصرة عن تقديم حلول مستدامة. 
إن وحدة الأرض والمصير اليمني، في إطار دولة اتحادية مدنية عادلة، تمثل الطريق الأكثر واقعية للخروج من الأزمة، وبوابة لاستقرار دائم يخدم اليمنيين، ويحقق أمن الجوار، ويحمي مصالح العالم.

وفي ظل تعقيد المشهد اليمني وتشابك أبعاده الإقليمية، بات من الواضح أن أي سلام عادل وشامل ومستدام لا يمكن أن يُنتج عبر مسارات أحادية أو مقاربات أمنية ضيقة. 
إن المرحلة القادمة تتطلب إطاراً إقليمياً أكثر توازناً، يقوم على دعم الدولة اليمنية الواحدة، واحترام سيادتها، وقرارها، ومعالجة جذور الصراع لا أعراضه. 
وهو ما يفتح المجال للتفكير في صيغ تعاون إقليمي جديد، يتجاوز منطق إدارة الأزمة إلى منطق صناعة السلام، بما يخدم استقرار اليمن ويعزز أمن المنطقة بأسرها.

آخر الأخبار