أوراق من التاريخ والاستراتيجيا
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
حضرموت والهوية التاريخية: تفكيك مصطلح "الجنوب العربي" وإعادة الاعتبار للكيان اليماني الأصيل
قراءة تاريخية موثقة في النقوش والوثائق والوعي الحضاري
المقدمة:
أُعيد في السنوات الأخيرة تداول مصطلح "الجنوب العربي" بوصفه إطاراً تاريخياً أو هوية جامعة، وجرى ربط حضرموت به سياساً وثقافياً، في تجاهلٍ صارخ للتاريخ الموثق في النقوش القديمة، والمصادر العربية، والوثائق العثمانية والبريطانية.
وتكمن خطورة هذا الطرح في أنه لا يحرّف وقائع مرحلة استعمارية محدودة فحسب، بل يسعى إلى إعادة تشكيل هوية حضارية ضاربة في القدم باسم مصطلح سياسي مستحدث.
هذه الدراسة تهدف إلى تفكيك هذا الخلط، وتأكيد حقيقة راسخة:
حضرموت لم تكن يوماً جزءاً من كيان أو هوية تُسمى الجنوب العربي، لا تاريخياً ولا سياسياً ولا ثقافياً.
أولاً: حضرموت في النقوش والآثار القديمة
تُعد حضرموت واحدة من أقدم الكيانات السياسية في جنوب الجزيرة اليعربية، وقد ورد اسمها صريحاً في:
• النقوش السبئية والقتبانية والحميرية
• السجلات الأثرية لمملكة حضرموت المستقلة
• أسماء الملوك، المدن، والأنظمة السياسية الخاصة بها
وتؤكد الدراسات الأثرية أن مملكة حضرموت كانت كياناً مستقلاً له حدوده وبنيته الاقتصادية والدينية، ولم يظهر في أي نقش أو نص قديم توصيف سياسي أو حضاري اسمه "الجنوب العربي".
ثانياً: المملكة اليمانية الكبرى – الكيان الجامع الوحيد
الكيان الوحيد الذي ضم حضرموت تاريخاً ضمن اتحاد أوسع هو المملكة اليمانية الكبرى في مرحلتها المتقدمة والمتأخرة، والتي ورد اسمها الرسمي في النقوش الملكية السبئية والحميرية بصيغة واضحة لا لبس فيها:
«سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم في الطود والتهائم»
وهي تسمية:
• رسمية
• موثقة نقشاً
• تعبّر عن اتحاد سياسي يماني محدد الاسم والمكونات
وقد أطلق الإغريق والرومان على هذه البلاد تسمية:
Arabia Felix – العربية السعيدة
وهي تسمية اقتصادية – جغرافية خارجية، تعكس الثراء الزراعي والتجاري لليمن التاريخي، ولا تحمل أي دلالة على هوية سياسية تُسمى الجنوب العربي.
ثالثاً: حضرموت في المصادر العربية والإسلامية
تناولت المصادر العربية الكلاسيكية –من الهمداني إلى ياقوت الحموي وابن خلدون– حضرموت باعتبارها:
• بلاداً معروفة الاسم والحدود
• ذات تاريخ وسكان يُعرفون بـ الحضارم
• منفصلة توصيفاً عن الحجاز وعُمان ونجران، وظهران، وسائر الأقاليم اليمانية
ولم يرد في أي مصدر عربي أو إسلامي مصطلح "الجنوب العربي" كهوية أو كيان، لا لحضرموت ولا لغيرها.
رابعاً : حضرموت في الوثائق العثمانية
لم تُدرج الدولة العثمانية حضرموت ضمن ولاياتها المباشرة، وهو اعتراف ضمني بخصوصيتها السياسية.
وعندما ورد ذكرها في الوثائق العثمانية، جاءت باسمها الصريح:
• حضرموت
• الشحر
• المكلا
دون أي استخدام أو إشارة إلى مصطلح "الجنوب العربي"، الذي لم يكن موجوداً في قاموس تلك المرحلة.
خامساً: حضرموت في الوثائق البريطانية
تُظهر الأرشيفات البريطانية بوضوح أن:
• حضرموت صُنفت ضمن المحميات الشرقية
• بينما شُكِّل اتحاد الجنوب العربي من عدن والمحميات الغربية فقط
• سلطنتا القعيطي والكثيري رفضتا الانضمام إلى الاتحاد.
وقد تعاملت بريطانيا مع حضرموت كوحدة سياسية منفصلة، ولم تُدرجها قانونياً أو إدارياً ضمن اتحاد الجنوب العربي في أي مرحلة.
سادساً: "الجنوب العربي" كمنتج استعماري
مصطلح "الجنوب العربي":
• نشأ في خمسينات القرن العشرين
• كان مشروعاً إدارياً بريطانياً لحماية عدن
• لم ينبثق عن وعي شعبي أو تطور تاريخي
• لم يشمل حضرموت واقعاً ولا قبولاً
وبالتالي فإن تقديمه بوصفه هوية تاريخية ممتدة يمثل إسقاطاً سياسياً معاصراً لا سند له.
سابعاً: الهوية الحضرمية والوعي الذاتي
سكان حضرموت يُعرفون تاريخياً بـ الحضارم، وهي هوية:
• ذاتية ومتوارثة
• موثقة في شرق أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا
• لم تُستبدل أو تذُب في أي مسمى سياسي طارئ
وقد حافظت الهجرة الحضرمية العالمية على هذه الهوية، وهو دليل على رسوخها واستقلالها عن أي توصيف مستحدث.
الخلاصة:
استناداً إلى النقوش القديمة، والمصادر العربية، والوثائق العثمانية والبريطانية، يمكن الجزم بأن:
حضرموت كأرض وهوية وكيان تاريخي لم تكن يوماً جزءاً من كيان أو هوية تُسمى الجنوب العربي، بل كانت إما مملكة مستقلة أو جزءاً من كيان يماني مُسمّى وموثّق.
وإن محاولة ربط حضرموت بمصطلح "الجنوب العربي" تمثل:
• خلطاً بين توصيفات أكاديمية ومشاريع استعمارية
• وتزييفاً للتاريخ
• وتجاوزاً لهوية حضارية موثقة منذ آلاف السنين
خاتمة
التاريخ لا يُعاد تشكيله بالشعارات، والهوية لا تُستعار من مشاريع استعمارية عابرة.
وحضرموت، باسمها وتاريخها وشعبها، كيانٌ حضاريٌّ أصيل، ليس أرضاً بلا أهل، ولا مجال لإعادة تعريفه من الخارج.
وتمثّل إدارة حضرموت حقاً أصيلاً وحصرياً لأبنائها، يُمارس بصورة كاملة على المستوى المحلي، في إطار دولة يمانية ديمقراطية اتحادية، ودون أي وصاية أو فرض من قوى تفتقر إلى شرعية التاريخ أو إلى القبول المجتمعي.