"أخطر ما تفعله الحرب ليس أنها تقتل الأجساد، بل إنها تُميت العقول". — هانا آرنت
في زمنٍ صار فيه الموت فضيلةً تُغنّى، والدم شعارا يُرفع باسم “الكرامة”، خرج علينا مرة أخرى من يطالبون بإطالة أمد الحرب في السودان كما لو كانت صلاةً واجبة أو قدَرًا مقدّسًا. إنهم يبكون الضحايا في الصباح، ويدعون إلى مزيدٍ من القتال في المساء. أيُّ انفصامٍ هذا؟ وأيُّ وعيٍ مقلوب جعل الناس يرون في الخراب خلاصًا، وفي السلام هزيمةً للنخوة؟
لقد تحوّلت الحرب إلى معبودٍ جديد، يصلي له البعض عند محراب الشعارات — "العزة"، "الوطنية"، "الجهاد" — وكلها كلماتٌ أُفرغت من معناها الإنساني حتى صارت قناعًا يخفي وجه الجريمة. نجح الإسلاميون في هندسة وعيٍ زائفٍ على مدى أكثر من ثلاثة عقود ولا زال.. وعيٍ يرى في القتل طهرًا، وفي العقل رجسًا من عمل الشيطان. لقد تم تربية أجيالٍ كاملة على “الجهل الموجّه”، لا بوصفه غيابًا للمعرفة، بل بوصفه معرفةً مُنتقاة تخدم غرض السلطة. قال نيتشه: "من يحارب الوحوش عليه أن يحذر ألا يتحول هو نفسه إلى وحش". وها نحن قد صرنا نحتفل بالوحشية كأنها بطولة.
إن الذين يصرخون اليوم "لا صوت يعلو فوق صوت الحرب" هم أبناء مدرسةٍ علّمتهم أن الجهل إيمان، والطاعة خلاص، وأن السؤال خيانة. فصارت الحرب عندهم ليست مأساةً بل طقسًا مقدسًا، والدم ليس لعنةً بل قربانًا يُقدَّم على مذبح الوطن. وما يدركونه متأخرين أن الانتهاكات ليست أخطاء الحرب، بل حقيقتها الخالصة. لأن الحرب — كما قال تولستوي — "لا تُبرَّر بشيء، إذ لا يوجد شيء أقدس من حياة الإنسان".
أيُّ جهادٍ هذا الذي يُقتل فيه السوداني برصاص السوداني؟ بنفس العقيدة الزائفة في نفوسهم "الله أكبر" أيُّ كرامةٍ تُبنى على أنقاض مدنٍ محروقة وأطفالٍ مشرّدين؟ إنهم يقاتلون ظلًّا صنعوه بأنفسهم، ويغرقون في دمٍ يُسمّونه شرفًا. هذه ليست حرب، بل انتحار جماعي باسم الوطن. حربٌ بلا أفق، بلا معنى، بلا رحمة.
لقد آن للسوداني أن يعيد تعريف الكرامة — لا في فوهة بندقية، بل في القدرة على حماية الحياة. الكرامة ليست في رفع السلاح، بل في رفع الوعي. لا في الانتقام، بل في الفهم. لأن السؤال الأول الذي يجب أن يُطرح من المستفيد من استمرار الدم؟
الجهل المقدس… هندسة الوعي على مقاس السلطة
الإسلاميين الكيزان وحدهم وبعض النخب السياسية الذين صنعوا هذا الوعي المشوَّه لا يريدون سلامًا، لأن السلام يفضح أكاذيبهم. وامتيازاتهم الحرب بالنسبة لهم ليست وسيلة، بل بيئةُ حياةٍ ووقودُ بقاء الحرب بالنسبة لهم للمحافظة على امتيازاتهم وسلطتهم مرة أخرى. قال فوكو: “السلطة لا تُمارس فقط بالقوانين، بل تُمارس عبر ما يجعل الناس يصدقون أنه قدرهم.” وهكذا صدّق كثيرون أن قدر السودان هو الحرب، لا السلام العادل والحرية.
لن ينتهي هذا الجنون إلا حين يستعيد الناس حريتهم الأولى: حرية التفكير. حرية الوعي حين يتوقف الشعب عن ترديد ما يُلقَّن له من شعارات ويسأل ببساطة: لماذا؟
عندها فقط، ستسقط البنادق من تلقاء نفسها، لأن الوعي حين يولد في الشعب السوداني — تموت الحرب.
"الشعوب لا تُهزم بالرصاص، بل تُهزم حين تكفّ عن التفكير".
وعندما تعرف، فإن أول ما تفعله هو أن ترفض الموت باسم أي أحد. وأي جهة كانت.