سياسة فرق تسد: من استعمار الأمس إلى أنظمة اليوم – صناعة الانقسام بين الطوائف والمذاهب
منذ قرون، لعبت سياسة “فرق تسد” دورًا محوريًا في تمزيق المجتمعات وإضعافها، بدءًا من الاستعمار الأوروبي الذي أتقن فن تفكيك النسيج الاجتماعي للشعوب، ووصولًا إلى عصرنا الحالي حيث أعادت قوى كبرى إنتاج هذه السياسة بوسائل حديثة، لتخترق المجتمعات من الداخل وتبقيها تحت السيطرة.
⸻
أهداف سياسة فرق تسد
سياسة فرق تسد لا تُمارس عبثًا، بل هي استراتيجية مدروسة تهدف إلى:
• إضعاف الوحدة الداخلية لأي مجتمع، حتى لا يشكل خطرًا على مصالح القوى الكبرى.
• منع ظهور مشروع نهضوي جامع يقود الأمة إلى الاستقلال الحقيقي سياسيًا واقتصاديًا.
• خلق صراعات مستمرة تستهلك طاقات الشعوب وتُبقيها غارقة في مشكلات داخلية.
• فتح الباب للتدخل الأجنبي بحجة حماية الأقليات أو حفظ “الاستقرار”.
• ضمان تبعية دائمة للأنظمة الحاكمة التي تعتمد على دعم خارجي للبقاء في السلطة.
• زرع الفتن والصراعات المذهبية لتمزيق وحدة الأمة من الداخل.
• إضعاف أي مشروع وحدوي أو استقلالي يمكن أن يهدد النفوذ الأجنبي في المنطقة.
• الحفاظ على الأسواق والموارد تحت سيطرتها عبر خلق أنظمة هشة ومفتتة.
• تبرير التدخل العسكري والسياسي بحجة حماية الأقليات أو حفظ الاستقرار.
⸻
الطوائف والمذاهب… أداة للاستعمار الجديد
بين السنة والشيعة، والصوفية والسلفية، والمذاهب الإسلامية المختلفة، لم تكن الاختلافات الفقهية يومًا سببًا في الحروب، حتى جاءت قوى استعمارية قديمة وحديثة لتضخّم هذه الفروقات وتحولها إلى خطوط نار. الدول الكبرى، استخدمت الطائفية كسلاح جيوسياسي لضرب الاستقرار وتفتيت الدول.
في العراق، تم ترسيخ المحاصصة الطائفية بعد الاحتلال الأمريكي. وفي لبنان، أصبح النظام الطائفي هو القيد الذي يمنع أي مشروع وطني جامع. وفي سوريا واليمن، تم استغلال المذاهب لإشعال صراعات دموية طويلة الأمد.
إعادة إنتاج الطائفية كسلاح استعماري
لم تعد الطائفية أداة خلاف داخلي فحسب، بل تحولت إلى مشروع جيوسياسي خارجي. القوى الكبرى دعمت أطرافًا طائفية بعينها في حروب وصراعات، ليس حبًا بها، بل لضمان استمرار التناحر وبقاء الهيمنة.
في العراق، فُرض نظام المحاصصة بعد الاحتلال الأمريكي. وفي لبنان، رُسّخت الطائفية السياسية على يد فرنسا. وفي سوريا واليمن، جُعل الصراع مذهبيًا بامتياز لتفتيت الدولة وإطالة أمد الحرب.
فرق تسد بأسلوب جديد: ناعم وخبيث
سياسة فرق تسد اليوم لم تعد تُمارس بالجيوش فقط، بل بأدوات أكثر نعومة وخطورة:
• الإعلام الطائفي الممول خارجيًا لبث الكراهية وتعميق الشرخ.
• تمويل ميليشيات مذهبية تتصارع بالنيابة عن القوى الكبرى.
• مراكز أبحاث ومنظمات حقوقية تُلبس الطائفية ثوب الدفاع عن الأقليات.
• شبكات تواصل اجتماعي تُستخدم لتضليل الشعوب وصناعة الاستقطاب
⸻
فرق تسد بنسختها الحديثة: إعلام، تمويل، ميليشيات
اليوم، تُمارس سياسة فرق تسد من خلال:
• إعلام ممول خارجيًا يغذي الطائفية.
• تمويل جماعات دينية ومسلحة تُمثل طائفة ضد أخرى.
• صناعة “زعامات طائفية” تمثل مصالح الخارج لا الداخل.
• إعادة رسم الجغرافيا السياسية عبر تقسيمات مذهبية مصطنعة.
⸻
الطائفية لا تبني أوطانًا
كل تجربة طائفية أدت إلى الخراب: من الحرب الأهلية في لبنان، إلى الانقسام السياسي في العراق، إلى الحرب الطائفية في اليمن وسوريا. لا يمكن بناء دولة على أساس “نحن” و”هم”، بل على أساس المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.
أثبت الواقع أن الطائفية والمذهبية لا تؤدي إلا إلى التفكك، والحروب الأهلية، والانهيار الاقتصادي والسياسي. لا يمكن بناء دولة حديثة على أسس الانتماءات الضيقة، بل على أساس المواطنة، والعدالة، ورفض التدخل الأجنبي.
⸻
الاستعمار لم ينتهِ… بل غير شكله
ما لم تدرك الشعوب أن الاستعمار لم يغادر بلادنا، بل عاد إلينا بشكل جديد عبر أدوات الطائفية والتفتيت، فسنظل ندور في دوامة الدم والانقسام. وحده الوعي الوطني، وتحرير العقل من الخطاب الطائفي، هو الخطوة الأولى نحو كسر هذه الحلقة الجهنمية التي تصنعها قوى الخارج بكل خبث ودهاء.
وعي الشعوب هو خط الدفاع الأخير
ما لم تدرك الشعوب أن سياسة “فرق تسد” ما تزال مستمرة، وأن الطائفية والمذهبية ليست خلافات دينية بقدر ما هي أدوات سياسية، فإنها ستبقى أسيرة مشاريع خارجية تستثمر في الدم والانقسام. لا خلاص إلا بالوعي، ونبذ الطائفية، وبناء وطن على أساس العدالة والمساواة لا الانتماءات الضيقة.