«لعنة العمالقة»...لوك كيمب يكتب لحضارات أودت بنفسها إلى الهلاك
بحرالعرب_ندى حطيط
هناك كتبٌ تقرأها، وأخرى تسكنك. هي لا تمر عبر عينيك إلى عقلك فحسب، بل تتسرب إلى روحك، تاركةً وراءها رجفةً عميقة وقلقاً نبيلاً. كتاب الأكاديمي الأسترالي لوك كيمب، «لعنة العمالقة: تاريخ ومستقبل الانهيار المجتمعي*»، هو من هذا الصنف النادر؛ يتجاوز سريعاً السرد التاريخي أو التحليل الأكاديمي، ليكون كما مرثية طويلة وشجية لحضارات أودت بنفسها إلى الهلاك، وفي الوقت ذاته، ومضة أمل عنيدة ترفض الانتفاء في عتمة المصير المحتوم.
يأخذنا كيمب في رحلة عبر خمسة آلاف عام من الطموح الإنساني وسقوطه، لا ليدهشنا بأطلال روما أو غموض حضارة المايا، بل ليمسك بأيدينا ويجعلنا نتلمس ذلك الخيط الخفي الذي ينسج كل حكايات الانهيار.
يبادر «لعنة العمالقة» سريعاً إلى الـتأسيس لمنطق سيحكم سرده، وذلك بتمزيق وشاحٍ طالما تسترنا به، فيتخلى عن مصطلح «الحضارة» الذي يراه المؤلف مجرد دعاية مُذهّبة صاغها الحكّام لتبرير هيمنتهم. فماذا نجد حين نزور مهد الممالك الأولى في بلاد ما بين النهرين أو الصين أو جبال الأنديز؟ ويجيب بصوت يملؤه الأسى: «حروباً، وسلطة أبوية، وتضحيات بشرية». لقد كان ذلك، في جوهره، تراجعاً مأساوياً عن مجتمعات الصيد والقطاف المتساوية التي تشاركت ووُجدت لمئات آلاف السنين، لنرتدّ إلى «هرمية الشمبانزي وحريم الغوريلا».
وبدلاً من «الحضارة»، يقدم لنا مصطلحاً أكثر صدقاً وقسوة لوصف تلك الممالك والإمبراطوريات الضخمة: «العمالقة»، مستعيراً التسمية التوراتية جالوت، تلك الشخصيّة الأسطوريّة التي وُلدت في العصر البرونزي، وتشربت العنف حتى الثمالة، وكانت هشة بشكل مروّع. ولكي يولد هؤلاء العمالقة، كانوا بحاجة إلى وقود خاص، ثلاثة أنواع من الوقود أشعلت محرك الهيمنة. الأول هو «ذهب الفقراء»: الحبوب، ذلك الفائض الذي يمكن رؤيته وتخزينه، وبالتالي، سرقته ونهبه. والثاني هو «بريق الموت»: الأسلحة الفتاكة، كالسيوف البرونزية، التي احتكرتها فئة قليلة لفرض سطوتها. أما الوقود الثالث، فهو الأكثر مكراً: «الأرض المسوّرة»، تلك الجغرافيا التي حاصرت البشر بين بحار وصحارٍ وجبال، فمنعتهم من الفرار من طغاة صاعدين، وحولتهم إلى رعايا في قفص.
بهذه الأدوات، لم يعد التاريخ قصة تقدم، بل كما يقول بجرأة موجعة: «أفضل طريقة لرواية التاريخ هي كقصة جريمة منظمة». قصة فئة نصّبت نفسها وصية على مصائر الآخرين، واحتكرت الموارد، وأقامت صروحاً شاهقة على جماجم العبيد والمواطنين.
ولكن كل عملاق، مهما بلغ من بطش، يحمل في أحشائه بذور فنائه. هذه هي «اللعنة» التي يتحدث عنها عنوان الكتاب. إنها اللامساواة. ليست مجرد فجوة اقتصادية تُقاس بالأرقام، بل هي سرطانٌ ينهش روح المجتمع، ويفسد نسيجه الأخلاقي. يرى كيمب أن الجشع ليس طبيعة بشرية أصيلة، بل هو مرض يصيب قلة من النخب، أولئك الذين يجسدون «الثالوث المظلم» للنفس البشرية: النرجسية، والسيكوباتية، والميكيافيلية. هؤلاء، في سباقهم المحموم على السلطة والمكانة، يستنزفون ثروات الأرض والناس، فيتركون مجتمعاتهم قشوراً جوفاء، مهيأة للتهشم عند أول صدمة، سواء كانت وباءً، أو حرباً، أو تغيراً في المناخ. المفارقة المؤلمة التي يكشفها التاريخ هي أن انهيار هذه الأنظمة الغاشمة كان في كثير من الأحيان رحمةً للعامة؛ فبعد سقوط روما، أصبح الناس أطول قامة وأكثر صحة، كأنهم تخلصوا من حُمّى أثقلت أجسادهم لقرون.
وهنا نصل إلى قلب المأساة، إلى حاضرنا. فالانهيارات الماضية كانت إقليمية، وكان هناك دائماً مهرب، أرضٌ يمكن العودة إليها، وزراعة يمكن استئنافها. أما اليوم، فنحن لا نعيش في ممالك متناثرة، بل نسكن جميعاً في أحشاء «عملاق عالمي واحد مترابط»، نظام رأسمالي يلف الكوكب بشبكاته. والانهيار هذه المرة لن يكون إقليمياً أو جزئياً، بل سيكون، كما يحذر، شاملاً وكارثياً وسريعاً.
لماذا؟ لثلاثة أسباب تقبض على الروح. أولاً، العنف المصاحب للسقوط لن يُخاض بالسيوف والرماح، بل بأسلحة نووية قادرة على محو الحياة نفسها. ثانياً، نحن جيلٌ متخصصٌ ومعتمدٌ كلياً على بنية تحتية عالمية معقدة. إذا انهار هذا النظام، لن نجد أرضاً نفلحها، بل سنسقط معه في الهاوية. وأخيراً، التهديدات التي نواجهها اليوم أشد فتكاً بما لا يقاس: تغير مناخي يهدد بغليان الكوكب، وذكاء اصطناعي غامض، وأوبئة مُصنّعة. إن «وكلاء الخراب» الذين يحكمون عالمنا اليوم - من قادة يمثلون الثالوث المظلم، إلى شركات عملاقة تعمل بمنطق سيكوباتي لا يكترث إلا بالربح - يضعوننا جميعاً على حافة نهاية قد تكون الأخيرة.
هل هناك مخرج؟ على الرغم من تشاؤمه المعلن، لا يتركنا كيمب فريسة لليأس. الحل الذي يقترحه ليس سهلاً، لكنه يعيد الكرامة إلى الفكرة الإنسانية. إنه يدعو إلى «ديمقراطية حقيقية»، تدار عبر مجالس مواطنين وهيئات محلفين، وإلى كبح جماح الثروة المتوحشة بفرض ضرائب عليها. قد تبدو هذه الأحلام طوباوية، لكنه يذكرنا بأننا خضعنا لغسيل دماغ استمر خمسة آلاف عام، جعلنا «نتخيل نهاية العالم أسهل من تخيل نهاية الرأسمالية». لقد أقنعونا بأننا عاجزون، بينما الحقيقة، كما يصرخ في وجهنا، هي أننا «كائنات اجتماعية، ديمقراطية بالفطرة، ولدينا حدسٌ فطري مضاد للهيمنة».
في النهاية، يتركنا «لعنة العمالقة» مع وصية أخيرة، مباشرة وحميمية، تلخص فلسفته: «لا تكن وغداً». لا تكن ترساً في آلة الدمار. لا تعمل لدى من يصنعون أسلحتنا أو يسممون كوكبنا. قاوم علاقات الهيمنة، وشارك السلطة متى استطعت. إنها دعوة للتحدي، للوقوف بصلابة أخلاقية، حتى لو كانت الهزيمة محتملة. لأن المعركة الحقيقية، كما يهمس لنا لوك كيمب بين سطور كتابه البديع والموجع، ليست معركة من أجل الانتصار، بل من أجل أن نكون جديرين بالبقاء. أن نفشل ونحن نقاوم، خيرٌ ألف مرة من أن ننجح ونحن جزءٌ من المشكلة. «لعنة العمالقة» هو مرآة شديدة الصفاء، تعكس قبح ما وصلنا إليه، وجمال ما يمكن أن نكون عليه لو تجرأنا