بحث

حمامة وينزر

الاثنين 08/سبتمبر/2025 - الساعة: 7:47 م

أشارت الكاتبة والإعلامية التونسية مريم إسماعيل، في مقالتها المعنونة بـ"حمامة وينزر"، إلى تجربة إنسانية عاشتها في مدينة وينزر البريطانية، حيث تحوّلت مصادفة عابرة إلى قصة رحمة وتكافل بين غرباء اجتمعوا على إنقاذ طائر مصاب. 

صحيفة "بحر العرب" تنشر نص موضوعها:

كانت زيارتي إلى مدينة وينزر دائمًا تحمل طابعًا خاصًا في نفسي. في تلك المرة، رافقتني صديقتي صبرينة وابنتها التي اعتدت أن أزورها من حين إلى آخر  بسلاو جنوب غربي لندن. 

 وينزر، رغم صغر مساحتها، تملك سحرا غريبا يخلط بين التاريخ والسكينة، كأن الزمن فيها يمشي بخطى أبطأ.

سبق أن زرت هذه المدينة مرتين. في المرة الأولى، تجولت في أروقة قصر وينزر الشهير، وقد أذهلني ما رأيت من فخامة وكنوز ملكية، لا سيما رأس الأسد الذهبي الذي ما زالت صورته محفورة في ذاكرتي. يومها، كان علم المملكة مرفوعًا، مما يعني أن الملكة إليزابيث الثانية آنذاك كانت داخل القصر. شعرت بشيء من الرهبة، وكأنني أقف عند بوابة التاريخ.

لطالما كان حب الاطلاع رفيقي في غربتي، وكنت أزور المعالم التاريخية في بريطانيا بانتظام. فبالنسبة لمهاجرة مثلي، عاشت قرابة ست سنوات في هذا البلد، كان فهم تاريخه وتقاليده مدخلاً لفهم أهله وثقافته.

غير أن مدينة وينزر، على وجه الخصوص، كانت تشدّني أكثر من غيرها. وفي زيارتي الثانية هناك ، تعرّفت في الحافلة على امرأة مسنّة تنبض بالحيوية. أخبرتني أنها تأتي إلى وينزر كل أسبوع لتتمشّى في حدائقها الجميلة  طوال النهار. جلسنا معًا في مقهى صغير في شارع بيسكود، ثم افترقنا بعد أن طبعت تلك اللحظة في قلبي.

في زيارتي الثالثة آخر شهر ماي، بصحبة صبرينة وابنتها، أحسست بشيءٍ داخلي يدفعني نحو ذلك الشارع تحديدًا، شارع بيسكود. لمن لا يعرفه فهو أقدم شوارع وندسور وأكثرها شهرة، ويُعتبر اليوم منطقة مزدحمة بالمشاة ومليئة بالمحال التجارية والأنشطة المختلفة، حيث يُغلق أمام السيارات خلال ساعات العمل ليمنح الزوار تجربة تسوّق وتنزّه مريحة. وقد ذُكر لأول مرة في عام 1177 كطريق يربط بين ساحة السوق (حيث تقف تمثال الملكة فيكتوريا) وشارع كلوير لين.

سرنا من زقاق إلى آخر حتى وصلنا إليه. وبينما كنا نتمشّى، أحسّت صبرينة بألم خفيف في معدتها، فاقترحت أن تجلس قليلًا على أريكةٍ قريبة وتدعني أتابع جولتي، غير أنني آثرت البقاء معها.

كان الشارع يعجّ بالمارة، والحركة فيه لا تهدأ. وفي الطابق العلوي لأحد البيوت، لفت نظري شباك صغير، أشبه ببيت زجاجي صغير، جلس فيه قطّ أبيض وأسود، يحدق بثبات نحو سطح بيت مجاور. بدا كمن يتربّص فريسة. تبعت نظره، فرأيت حمامةً ترفرف بين سطح وآخر، ثم تهبط لتأكل من فتات موضوع أمام صالون حلاقة وراء الأريكة التي كنا نجلس عليها.

دققت النظر، ولا أدري لماذا، ربما كان حبّي للحيوانات هو ما دفعني لذلك. ولكن ما رأيته لفت انتباهي بشدة : كانت خيوطٌ بلاستيكية ملتفة بإحكام حول ساقي تلك الحمامة المسكينة، وقد اختلطت بأعواد صغيرة، كأنها قيود تتربص بأطرافها الرقيقة. أحد أصابعها تغيّر لونه إلى السواد.

أخبرت صبرينة، وقررت أن أقترب لمحاولة الإمساك بالحمامة وتخليصها. في تلك اللحظة، خرجت امرأة من صالون الحلاقة، وقالت إنها كانت تحاول منذ الصباح إنقاذ الحمامة. تعاونّا نحن الأربعة  أنا وصبرينة وابنتها وتلك المرأة  التي لم نتعرف عليها بعد وشكّلنا حلقة صغيرة حول الحمامة حتى تمكّنت المرأة من الإمساك بها.

حين أمسكنا بها، بدت كأنها استسلمت، كأنها تقول: "أخيرًا أحد أحس بألمي و أتي بانقاذي". حملتها بين يدي، وكانت تنبض خوفًا ووجعًا. بدأت صبرينة وابنتها تقصّان الخيوط المتشابكة، بحذرٍ وعناية، بينما واصلت الإمساك بها برفق.

أمضينا أكثر من عشرين دقيقة نحاول فكّ تلك الخيوط، واحدا تلو الأخر ، كأننا نفكّ ألغازًا من معاناة امتدت شهورًا. لم نتمكن من إزالة جميعها، فقد كانت بعض الخيوط قد غرست نفسها في لحم الإصبع الذي بدا أن الدم انقطع عنه و انتفت فيه الحياة. تجمّع بعض المارة، وأدرك بعضهم أننا نحاول إنقاذ مخلوق ضعيف، فتدخلت امرأة أخرى للمساعدة. بدأنا نناقش أين يمكننا نقل الحمامة، حتى نحصل لها على رعاية طبية.

أدخلتنا المرأة  وتبيّن أن اسمها "إيما"  إلى صالون الحلاقة الي تشتغل فيه ننتظرها  حتى تبحث و ترجع بشيء تضع فيه الحمامة. جلسنا ننتظرها، نواصل العناية بالحمامة التي أطلقت عليها اسم أنجل - الملاك- ، نزع آخر ما تبقى من الخيوط الملتفة، وكأننا نحررها من سجنٍ صغير. 

 بعد برهة من الزمن رجعت إيما بصندوق من قماش خاص بكلبها.

قالت لنا: " وي كأن الله أرسل ثلاثتكن لها في اللحظة المناسبة… لقد كانت على وشك الموت". اتضح لاحقًا أن الخيوط التي التفت حول ساقيها كانت بقايا من شبكة مضادة للحمام، سقطت فيها وتورطت ﻷسابيع بل ربما لشهور.

كان الرأي أن أنجل يجب أن تنقل إلى مركز خاص بالطيور وكان  أقرب مركز يبعد أربعين ميلا من هناك. رغم مشاغلها و رغم الوقت المتأخر ، لم تتردد ايما في أن تتبنى المهمة فأنا كان يجب علي أرجع إلى لندن و بيت صبرينة ليس في الطريق المؤدية لمركز الطيور.

استقلت ايما تاكسي لمسافة أربعين ميلًا بعد انتهاء عملها، فقط لتوصل "أنجل" إلى مركزٍ للعناية بالطيور. لبرهة جعلت أفكر في رقة قلوب بعض الناس و جعلت أراجع نفسي هل في قلبي مستوى الرحمة التي عند ايما؟ فعلا  تجلت تلك اﻵية القرآنية  من سورة الحجرات أمام عيني: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

بقينا على تواصل مع إيما صاحبة القلب الرحيم  وأخبرتني أن المركز اضطر لبتر الإصبع الأسود، لكنهم أنقذوا الساق، وأن انجل تعافت لاحقًا وتم إطلاقها في السماء بعد أسبوعين.

حين أفكّر في تلك اللحظة، أشعر أننا لم ننقذ مجرد طائر، بل أنقذنا شيئًا من الإنسانية فينا. نحن، الذين جيء بنا من لندن و سلاو إلى شارع بيسكود في وينزر، ربما لم نكن سوى وسيلة… استجابة لصوتٍ خافتٍ لم يسمعه سوانا.

ربما، قبل أن ننساق خلف انشغالاتنا اليومية، خلف أنانيتنا المقنّعة بأعذار الحداثة، علينا أن نتوقف للحظة، ونتأمل الكائنات التي لا صوت لها. المخلوقات الضعيفة، الصغيرة، التي تشاركنا هذا الكوكب، لا تملك لسانًا تطلب به النجدة، لكنها تملك قلوبًا تنبض بالحياة مثلنا تمامًا. أن نفكّر فيها لا يجعلنا أقل إنسانية… بل ربما، هو ما يُبقينا بشرًا وسط عالمٍ يُراد له أن ينسى الرحمة.

لا أنكر، لقد شعرت بسعادة عارمة حين علمت أن انجل تعافت و أطلق سراحها بعد مدة قصيرة فأنا لست من محبي أقفاص الطيور.

هذه هي قصة حمامة وينزر، قصة رحمة وإنسانية، تذكرنا بأننا خُلقنا شعوبًا وقبائل لنتعارف ونتراحم، لا لنتنازع أو نتباعد. فالرحمة بين البشر هي الجسر الذي يجعل العالم أوسع قلبًا وأجمل عيشًا، ومن دونها يضيق الكون رغم سعته.

 

متعلقات:

آخر الأخبار