شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
أحمد قرحش…
ظلّ الثورة الطويل وصوتها الذي لم يخفت
في سفر الثورة اليمنية، لا تُكتب الصفحات الحاسمة بالحبر وحده، بل تُسجّل بالعزم والنار والرجال .
وبين أبطالها، يلوح اسمٌ لا يشبه سواه، اسمٌ بقي وفيّاً للفكرة كما كان للجبهة، ووقف على تخوم التاريخ لا كبقايا زمنٍ مضى، بل كجذر حيّ في أرض الجمهورية .
ذلك هو اللواء أحمد عبدالرحمن قرحش، آخر الكبار من جيل سبتمبر الجليل…
الرجل الذي لم ينكسر في زمن الانكسارات، ولم يُبدّل بوصلته حين التبست الدروب، بل ظل صوته جهورياً بحقيقةٍ واحدة :
“الجمهورية خَيارٌ لا عودة عنه”.
ليس قرحش مجرد مناضل حمل السلاح في وجه الإمامة، بل حامل لواء لقضية خالدة، وجندي من طراز نادر، ظلّ يقاتل بالفكرة حين أُطفئت البنادق، وبالصدق حين تلوثت المواقف، وبالذاكرة حين خسر كثيرون ذاكرتهم أمام صفقات السياسة ومكائد المصالح ونخاسة الأوطان .
وُلِد من تراب شهارة، وخرج من قلب الريف اليمني العصيّ على الانحناء، يحمل في ملامحه قسمات الجبال، وفي صدره صلابة الرجال الذين لا تُؤجر مواقفهم، ولا تتبدّل وجوههم بتبدّل الفصول .
قاتل، ودرّس، وقاد، وبقي – حتى وهو يشيخ – شمعة مضيئة في زمن الظلمة .
اليوم، في زمن تعيد فيه بعض الأصوات تلميع الكهف، وتسوّق للماضي الكهنوتي على أنه مستقبل، تبرز سيرة أحمد قرحش كقنديل لا ينطفئ…
شاهدٌ عادلٌ على نقاء البدايات، ورمزٌ نادرٌ لمن أختار أن يبقى صوت الثورة حين خمدت الأصوات، وظلّها حين تفرّق الحراس .
من أعالي شهارة… فجرٌ يولد
في أغسطس من العام 1943، وعلى قمم شهارة الشامخة، وُلد أحمد عبدالرحمن قرحش، في قرية الموقاع، عزلة بني خلف، مديرية شهارة بمحافظة عمران .
لم تكن شهارة آنذاك مجرد جغرافيا قاسية تحرسها الجبال، بل كانت رمزاً للممانعة والعزّة والتاريخ الذي لا ينكسر .
هناك، حيث يشتد البرد وتلين القلوب على الفطرة، نشأ الطفل أحمد في كنف بيئة بسيطة في ظاهرها، عميقة في جذورها، متشبعة بالقيم، ومحصّنة بروح اليمن المقاوم منذ الأزل .
ترعرع في أسرة يمنية لا تعرف الانهزام، وتلقى أولى معارفه في مجال اللغة وأصول الفقه، كما كان حال كثير من أبناء تلك البيئات العلمية الرفيعة التي لم تتوافر لها المدارس النظامية، لكنها أنجبت مفكرين ومجاهدين .
غير أن جذوة الطموح والوعي في داخله لم تعرف السكون .
فحين شبّت الإرهاصات الأولى للتغيير في البلاد، شدّ أحمد رحاله إلى صنعاء، لا بصفته مهاجراً إلى المدينة، بل مقاتلاً في طور التكوين .
هناك التحق بمؤسسات التعليم المدني والعسكري، وخاض دروب التكوين العقلي والبدني، ليبدأ فصلاً جديداً من حياته سيكون فيه لاعباً أساسياً في واحدة من أعظم تحولات اليمن الحديث .
لم يكن ذلك الانتقال مجرد خطوة تعليمية، بل كانت عبوراً رمزياً من طور التلقي إلى فضاء الفعل، ومن الصمت الريفي العميق إلى ضجيج العاصمة التي كانت على وشك الانفجار بوجه قرون من الظلم والتخلف .
من مقاعد الدراسة إلى ميادين القتال
من مقاعد الدراسة في صنعاء إلى ميادين القتال في جبهات الثورة، كانت مسيرة أحمد قرحش تتصاعد بشكل يعبّر عن إرادة لا تعرف الحدود .
بعد أن أكمل دراسته في المدرسة التحضيرية والثانوية في العاصمة، كانت خطوة قرحش التالية أكثر إصراراً على التغيير :
الانضمام إلى السلك العسكري، حيث أختار طريقاً لن يتراجع عنه، طريق الجندية التي تحمي الوطن والفكرة معاً .
لم يكن تدريب قرحش مجرد اكتساب مهارات عسكرية، بل كان انغماساً في بحر من العلم والتكتيك العسكري، فخلال سنواته الأولى في الخدمة، تخصص في مجالات الطيران، المظلات، الإشارة، والهندسة العسكرية .
كان يطمح دوماً إلى التميز، ولم يكن يقتنع إلا بالمعرفة العميقة والتدريب المتقن، مما مكنه من أن يكون عنصراً فعّالاً ومرناً في الجيش الجمهوري الذي كان في حاجة إلى قادة من هذا الطراز .
لكن الطموح لدى قرحش لم يتوقف عند حدود التدريب العسكري التقليدي، بل تخطاه ليصل إلى آفاق علمية أوسع .
ففي عام 1972، واصل دراسته في أكاديمية المهندسين في موسكو، حيث نال درجة الماجستير، ليصبح أحد أوائل اليمنيين الذين جمعوا بين العلم العسكري الحديث والتخصص الأكاديمي الرفيع .
فهذه الميزة جعلته ليس فقط جندياً في الميدان، بل أيضاً مهندساً يعي تماماً ما يحتاجه جيش الجمهورية من أسس علمية وتقنية ليكون قوة فاعلة ومؤثرة في مواجهة التحديات .
فمن غرفة الصف في صنعاء إلى مسارات العلم في موسكو، ومن جبهات القتال في ميادين الثورة إلى طاولات الخطط العسكرية المعقدة، كان أحمد قرحش يتحول إلى قُطب من الأقطاب الأساسية لبناء الجيش الجمهوري، كما كان يتحوّل إلى قائد يُعتمد عليه في السلم والحرب .
بندقية في وجه الرجعية
مع فجر ثورة 26 سبتمبر 1962، انطلقت جحافل الأحرار في معركة تحرير اليمن من قيود الظلام والاستبداد، وكان أحمد قرحش في طليعة هؤلاء الأبطال .
لم يكتفِ بأن يكون جزءاً من هذه الثورة، بل انغمس فيها بدمه وروحه، ليصبح أحد القادة الميدانيين الذين حملوا البندقية في وجه الرجعية بكل شجاعة وإيمان .
كان قرحش في ذلك الوقت أكثر من مجرد جندي، كان قائداً يؤمن أن مصير الجمهورية لا يمكن أن يُصان بالكلمات الفارغة والشعارات الرنانة، بل يجب أن يُحفر في ميدان القتال بالمواقف الثابتة والتضحيات العظيمة .
ومع تصاعد التحديات، أختار أن يكون في قلب المعركة، بعيداً عن أي حسابات شخصية، يناضل دفاعاً عن حلم الثورة وعن مستقبل شعبه .
خاض قرحش العديد من المعارك المصيرية، لكن أبرزها كانت في جبهتي الشرفين وقِفلة عذر، حيث صمد ببطولة في وجه الحصار الملكي الذي فرضته قوات الإمامة .
كان يعرف جيداً أن تلك الجبهات لم تكن مجرد خطوط عسكرية، بل كانت تمثل مصير اليمن، وبقاء الجمهورية التي رأى فيها طوق النجاة لشعبه . واجه القصف الجوي الملكي برباطة جأش لا مثيل لها، وجزم بأن الثبات في الميدان لا يقل قيمة عن الإيمان بالفكرة .
في تلك اللحظات القاسية، كان قرحش يمثّل روح الثورة :
جندي لا ينهار، وقائداً لا يتراجع، ورجل يُعلم الآخرين أن النصر في المعركة ليس فقط بالعتاد، بل بالاستعداد الكامل للإيمان بالقضية والقتال من أجلها حتى آخر رمق .
جمهوري حتى النخاع
لم يكن أحمد قرحش مجرد ضابط مقاتل في جيش الجمهورية، بل كان تجسيداً حقيقياً لفكرة الجمهورية نفسها، مؤمناً بأن الدولة يجب أن تكون ملكاً لكل الناس، لا حكراً على طبقة أو عائلة .
كان ذلك الإيمان عميقاً في وجدانه، متجذراً في كل خطوة خطاها في حياته المهنية والعسكرية .
تولّى قرحش لاحقاً مسؤولياتٍ حيوية في مسار خدمة الوطن، منها قيادة سلاح المهندسين في الجيش الجمهوري، ليُثبت مرة أخرى قدرته الفائقة على القيادة الرشيدة في أوقات الأزمات .
لكن دوره لم يقتصر على السياسة العسكرية فقط، بل اتسع ليشمل مسؤوليات إدارية كانت حاسمة في بناء وتطوير الدولة الجديدة .
كان قرحش محافظاً على مأرب والجوف، وهما منطقتان شديدتا الحساسية من حيث الأمن والتنمية .
كان يدير تلك المناطق في وقت عصيب، حيث الحروب والمشاكل الاقتصادية تتداخل مع التحديات الأمنية المستمرة .
لكن، على الرغم من تلك الظروف الصعبة، كانت إدارته تتميز بالنزاهة، والكفاءة، والإخلاص العميق لقيم الجمهورية .
لم يكن قرحش يتصرف كمجرد مسؤول حكومي، بل كان حارساً للرؤية التي ناضل من أجلها، مضحياً بالراحة الشخصية في سبيل إرساء أساس قوي لدولة حديثة .
في كل خطوة، وفي كل قرار، كان أحمد قرحش جمهورياً حتى النخاع، يعمل على تمكين شعبه، وإعلاء قيم العدالة والمساواة .
لم يتردد في فرض إحترام الدستور والقانون في المناطق التي خدم فيها، مشيراً إلى أن الأمانة في القيادة لا تقتصر على الحفاظ على الأمن، بل تمتد إلى بناء مستقبل ينتمي فيه الجميع إلى وطن واحد موحّد .
صوتٌ لا ينكسر
رغم محاولات التهميش المتعمد التي طالت العديد من رموز الثورة، ظل أحمد قرحش صوتاً لا يُقهر، حاضراً في المواقف الوطنية الكبرى، لا يتراجع ولا يساوم .
لم يكن يوماً من أولئك الذين يختارون الصمت في زمن الفتن، بل كان دائماً في قلب الحدث، يتخذ المواقف بوضوح وشجاعة، مهما كانت العواقب .
في مرحلةٍ كثر فيها المتلونون والمُنتفعون، تحدى قرحش بصوته الثابت الخوف والتجاهل .
وقد وقف بحزم ضد المشروع الحوثي الذي أعتبره تهديداً حقيقياً للثورة والجمهورية، رافضاً ما وصفه بأنه عودة إلى حقبة الكهنوت الإمامي التي ثار الشعب ضدها في 1962.
بالنسبة له، لم يكن هذا مجرد موقف سياسي، بل كان دفاعاً عن هوية اليمن ومصيره الذي لا يقبل أي تراجع أو رجوع إلى الوراء .
كان أحمد قرحش يُصر على أن الطريق إلى الاستقرار والوحدة الوطنية لا يمر إلا عبر استعادة قيم الجمهورية التي ضحى من أجلها الأبطال .
كانت كلماته دائماً مملوءة بالثبات والإيمان العميق أن اليمن لن يعود إلى عصور الاستبداد، وأن شعبه يستحق مستقبلاً قائماً على العدالة والمساواة، لا على قوى الظلام والرجعية .
ظل صوت قرحش في هذا السياق شاهداً حياً على الجدية التي لا تقبل المساومة في الحفاظ على الجمهورية، مدافعاً عنها ضد كل من يحاول النيل منها، في وقت كانت فيه الأصوات المتخاذلة تحاول إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء .
زرع الأمل في أرض قاحلة
في أحد تصريحاته المفعمة بالمرارة والتأمل العميق في مسيرة الوطن، قال أحمد قرحش: “منذ مئة عام لم تعرف اليمن استقراراً، وكلما نبتت بذرة أمل، جاء من يقلعها .
لكننا سنظل نزرع، لأننا نؤمن بالوطن .”
كانت تلك الكلمات بمثابة شهادة على الواقع المرير الذي عاشه اليمن، حيث مرت البلاد بفترات من الاضطراب المستمر، وتعثرت مسيرة الاستقرار والأمان على مدار عقود .
لكن في تلك الكلمات، كانت تنبض روح قرحش الثابتة، تلك الروح التي لم تقبل الاستسلام، بل جعلت منه رمزاً للصمود والإصرار .
كان يرى في كل صعوبة فرصة جديدة للزراعة من جديد، وفي كل نكسة نبراساً للعودة إلى البذرة الطيبة التي زرعها الأجداد .
في مواجهة الرياح العاتية التي كانت تقتلع تلك البذور، كان يرى نفسه كمن يُحيي الأمل في أرض قاحلة، يؤمن بأن الإرادة الصادقة والعزيمة لا يمكن أن تُقهر مهما كان حجم التحديات .
كانت عباراته تَحمل في طياتها رسالة أمل، إذ قالها وهو يعلم أن اليمن سيظل دائماً قادراً على النهوض من بين أنقاضه، طالما أن هناك من يزرع الأمل ولا ييأس .
كانت تلك الكلمات شهادة على إيمانه العميق بأن اليمن، رغم الألم والمعاناة، سيظل يحمل في قلبه بذور الأمل، وسينبت مجدداً، مهما كان حجم الحواجز والعقبات .
صنع التاريخ بصمت…
فكرم نفسه في سكون المجد
أحمد قرحش كان أحد أولئك الرجال الذين صنعوا التاريخ بصمت، بعيداً عن الأضواء الزائفة التي تحيط بالقادة التقليديين .
لم يكن يبحث عن الشهرة أو الألقاب، بل كان يسعى لأن يترك بصمته في كل خطوة من خطوات الثورة والجمهورية، يزرع بذور التغيير في كل موقف يتخذه، رغم قسوة الظروف ووعورة الدروب .
كان قرحش يرى أن الأفعال أكثر قوة من الأقوال، فظل طوال حياته يناضل دون ضجيج، يصنع ما يجب أن يصنعه دون أن يطلب التكريم أو الثناء .
فكرم نفسه .
نعم لقد كان في قدرته على البقاء ثابتاً في وجه العواصف، وفي تحمله مسؤولياته الوطنية بجدية، وعزمه على المحافظة على قيم الجمهورية، حتى عندما بدا أن الطريق مسدوداً.
صنع التاريخ، ولم ينتظر أن يعترف به أحد، لأن قيمه كانت تكفيه .
في سكون المجد، ظل صوته مرتفعاً، ليس بالكلمات، بل بالمواقف الشجاعة، في وقتٍ كان فيه الصوت الأصيل مهدداً بالتلاشي بين الأصداء المزيفة .
رجل بحجم ثورة
اللواء أحمد قرحش ليس مجرد أسم في سجل المناضلين، بل هو ذاكرة حية تسير بيننا، رجل عاش ثورة 26 سبتمبر بكل تفاصيلها وتناقضاتها، لكنه خرج منها كما هو :
نظيف الكف، صافي السيرة، ثابت المبادئ .
في زمنٍ تحول فيه الكثيرون إلى أشباح من التذبذب والتبعية والخيانة العظمى، ظل قرحش كما هو، رمزاً للثبات، لا يتزعزع أمام رياح التغيير أو أجواء المصالح الشخصية .
لقد كان جزءاً من ثورة حقيقية، وتحت سمائها، عاش مع جيله صراع الحرية والكرامة، وجسّد ما يعنيه أن تكون مخلصاً للشعب والوطن .
أما اليوم، فقد أصبح رمزاً لذلك الجيل الذي دفع الثمن غالياً، ولكن دون أن يساوم على مبادئه أو يتنازل عن قيمه .
ظل قرحش مع كل تلك التغيرات السياسية التي جرفت كثيرين، ثابتاً كجبلٍ شامخٍ لا تهزه الرياح .
كان جمهورياً حتى النخاع، ولم تُطفئ شعلة حبه للوطن، حتى وإن كانت البلاد تمر بمرحلة شديدة الاضطراب .
لم يكن رجلاً فقط يحمل بندقية، بل كان حاملاً لفكر الجمهورية، وتطلعات وطنية لا تغفو ولا تنام .
فالوطن لم يمت، وما يزال صدى الثورة حياً في صدور رجالها…
من طينة أحمد قرحش، من نُسغ الأرضِ وملحها .
هم حراس الذاكرة التي لا تنعس، وظلّ الحكاية الذي لا يذبل .
يقفون كأشجار السدر في وجه العاصفة، لا يحنون الجباه، ولا تُغريهم خزائن المال الحرام، ولا يملؤون الجيوب بما يُفرغ القلوب .
جيوبهم خفيفة، لكن قلوبهم مثقلة بالشرف، لا يمدّونها إلى مالٍ مدنس .
لا يتركون للخذلان مكاناً .
حتى والجراح غائرة، يظلون شهود الوفاء، وعنوان البدايات النقية المتجذرة في تراب الوطن الطاهر .
الخلاصة :
من الواجب على الأجيال الجديدة أن تقرأ عن رجال مثل أحمد قرحش ليس كحكايات تاريخية تُحكى في كتب أو مراجع بعيدة، بل كنماذج حية تجسد معنى أن تكون مناضلاً حقيقياً من أجل وطنك .
فالثورات لا تكتمل فصولها ولا تكتسب قوتها إلا إذا عشنا مع قصص من صنعوها، أولئك الذين ضحوا بكل ما لديهم من أجل حرية وطنهم .
أحمد قرحش كان واحداً من هؤلاء الرجال الذين لم يكونوا مجرد شهود على التاريخ، بل صُنَّاعه، وهو اليوم شاهدٌ حي على أن النضال الحقيقي لا يتوقف عند لحظة، بل يمتد ليصبح حياة كاملة من الإيمان والتضحية .
إنَّ قراءة قصته هي بمثابة دعوة للأجيال المقبلة للتعلم من دروسه، لاستلهام الحكمة، والإصرار، والوفاء لمبادئ الوطن التي لا تموت .