بحث

عبدالله السلال … قائد الثورة حين يولد الرجال في لحظة التاريخ (5)

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

عبدالله السلال …
قائد الثورة
حين يولد الرجال في لحظة التاريخ (5)

الطريق إلى السادس والعشرين من سبتمبر – من التنظيم السري إلى فجر الجمهورية

المقدمة : 
حين كان الزمن يمشي على أطراف الحلم

مرت السنوات بعد ثورة 1948 بطيئةً كأنها قرونٌ من الانتظار.
كانت اليمن آنذاك تمشي مثقلةً على طريقٍ مغطّى برماد الهزيمة، يغلي في باطنها الغضب وتغشاها سحابة الإمامة الكثيفة.
مدنها صامتة كالمقابر، وريفها محاصرٌ بالعزلة، وشعبها بين جهلٍ مفروضٍ وفقرٍ مقدّسٍ لا يُسأل عن سببه.

كان كل شيء جامدًا إلا الحلم، فقد ظلّ يقاوم في عقول القلائل الذين آمنوا أن الليل مهما طال، لا بدّ أن يُولد فجر.

في قلب هذا السكون المميت، كان يقف ضابطٌ اسمه عبدالله يحيى السلال، يرقب المشهد من موقعه في الجيش وكأنه شاهدٌ على زمنٍ يحتضر.

كان قد خرج من رماد 1948 بخبرة الألم وهدوء الحكماء، فعاد إلى صفوف الجيش لا ليخدم الإمام، بل ليخترق أسوار القصر من الداخل.
من حوله كانت عيون الحرس تراه جنديًا مخلصًا، لكن التاريخ وحده كان يعرف أنه يربي في صدره ثورة.

في تلك السنوات، كانت اليمن أشبه ببرميل بارودٍ يتنفّس تحت ثقل القرون.
الإمام أحمد بن يحيى، ابن الإمام الراحل، حكم البلاد بقبضةٍ من حديد ونار.

جيشه ليس جيشًا للوطن، بل إقطاعٌ من الولاءات تُباع وتُشترى.
العلم محرمٌ إلا في حدود الطاعة، والفكر مراقبٌ حتى في الصمت.
لكن وسط هذه الظلمة، كانت تتكوّن نواة الوعي الجديد: جيلٌ من الضباط والمثقفين الذين تعلموا في مدارس الأيتام، واحتكّوا بالعالم الخارجي، وبدأوا يهمسون بأن اليمن ليست قدَرًا مكتوبًا في يد أسرةٍ حاكمة، بل وطنٌ يستحق الحياة.

هناك، في تلك اللحظة الحرجة، كان السلال يمارس صمته كفنٍّ من فنون الحرب.
يبتسم في حضرة الإمام، يحيّي زملاءه في الحرس، لكنه في داخله يرسم خريطة الخلاص.

كان يعرف أن السلاح هو الكلمة الوحيدة التي يفهمها الطغاة، وأن أي ثورة بلا قوةٍ منظمة ستُسحق كما سُحقت ثورة الدستور من قبل.
لذا أخذ على عاتقه أن يكون الجسر بين الإيمان بالحلم وتنفيذه، بين الفكرة والرصاصة الأولى.

لم يكن يرى في نفسه زعيمًا أو رئيسًا، بل جنديًا في مهمة قدرية.
وكان الزمن، ببطءٍ مدهش، يهيّئ له المسرح:
إمامة هرمة، جيش ناقم، وشعبٌ يتململ تحت الركام، ومدٌّ قوميٌّ يأتي من الشمال يحمل رياح عبدالناصر وثورة 23 يوليو في مصر.
كل شيء كان يشير إلى أن صفحة التاريخ القديمة على وشك أن تُطوى، وأن اليمن تستعد لأن تكتب سطرها الأول في سفر الجمهورية.

وفي هذه اللحظة من التاريخ، وقف عبدالله السلال، بصلابته الهادئة وذكائه الفطري، كمن يسمع همس القدر يقول له:

“لقد انتظرت طويلًا يا ابن سنحان… والليل أوشك أن ينكسر .”

وهكذا بدأ الطريق إلى السادس والعشرين من سبتمبر…
طريقٌ لم يُعبد بالحرير، بل بالدم والسرّ والمخاطرة.

طريقٌ سار فيه السلال ورفاقه بخطى خفيفة، كمن يمشي فوق بركانٍ مشتعل، حتى أشرقت صنعاء أخيرًا على فجرٍ جديد.

بين ظلال الثقة ….
ومكر الثورة

كان الإمام أحمد بن يحيى بطبعه حذرًا، يعيش في قلقٍ دائمٍ من ظله ومن رجاله، لا يمنح ثقته إلا كما تُمنح جرعة الدواء لِمريضٍ يُخشى عليه من الشفاء.
لكنه، على نحوٍ عجيب، رأى في عبدالله السلال وجهًا مطمئنًا، ضابطًا هادئ النبرة، صادق القسمات، لا يُرى في مجالس القصر إلا منضبطًا يؤدي التحية ويصمت.

فقرّبه إليه، وأسند إليه مناصبَ دقيقة في الحرس الملكي وقصر السلاح، حيث تنام القوة كلها في قلب صنعاء الحديدي، محروسةً بأقفال الطاعة.

لم يكن الإمام يعلم أنه بيده تلك المقرّبة إنما يغرس بذرة نهايته.
فالثقة التي منحها للسلال كانت أشبه بمفتاحٍ ذهبي أودعه في يد التاريخ دون أن يدري، مفتاحًا سيفتح بعد أعوامٍ بابًا لا يُغلق: 
باب الجمهورية.

في تلك المواقع الحساسة، بدأ السلال يتحرك بذكاءٍ صامتٍ يليق بقائدٍ يعرف أن الثورة الحقيقية لا تُعلن بالشعارات، بل تُبنى بين جدران الولاء الظاهري.

كان يدرك أن الكلمة في اليمن الإمامي قد تُكلف حياة، وأن الصمت قد يكون أبلغ من الخطب، فاختار أن يجعل من الانضباط ستارًا، ومن الطاعة وسيلة، ومن الوقت حليفًا.

لقد أتقن فنّ الاختباء في الضوء.
فكلما ازدادت ثقة الإمام به، ازداد هو قربًا من قلب النظام، حتى أصبح يعرف أسرار القصر ومفاتيح السلاح، ويرى بعين الجندي المخلص ما لا يراه الحاكم من فوق عرشه.
وفي كل صباحٍ كان يمر من أمام البوابات، كانت خطواته تقول للتاريخ في سرّه:

“من هنا سيبدأ الانقلاب الكبير… ولكن بصمت .”

لم يكن السلال في تلك المرحلة رجلاً ينتظر اللحظة، بل رجلاً يصنعها من الداخل، حجراً فوق حجر، خلية بعد خلية، حتى صارت شبكة الضباط الأحرار تمتد في الظل كأوردةٍ سرّية تحت جسد الإمامة.
وهكذا تحوّلت ثقة الإمام إلى ثغرةٍ استراتيجية في بنيانه، تحفرها يدُ رجلٍ يعرف متى يُخفي النصل، ومتى يرفعه في وجه الظلام.

لقاءات الضباط الأحرار … 
حين بدأت الخلايا تنبض

كان الليل في صنعاء ثقيلاً كقدرٍ يوشك أن ينفجر، والمدينة القديمة تتنفس تحت سقفٍ من الخوف، لا يُسمع فيها بعد الغروب سوى همس الحراس وخطواتٍ تتجنب الصدى.
لكن في بعض بيوت الطين المتواضعة، كانت أنفاس التاريخ تتغير.
هناك، بين كتبٍ مخبأة ورسائل تُكتب بالحبر الخافت، بدأ الضباط الشباب يلتقون سرًا، كمن يوقدون شمعة في نفقٍ طويل.

لقد وُلد تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين من رحم المعاناة لا من ترف الفكرة.
كانوا مجموعةً من العسكريين الذين أدركوا أن الجيش الذي يُفترض أن يحمي الوطن، صار يحرس سجنه، وأن البنادق التي تُرفع باسم الإمام لا تصون اليمن، بل تقمعه.

في تلك الجلسات الأولى، لم يكن أحد يتحدث بصوتٍ عالٍ، فالكلمة في ذلك الزمن كانت تهمة، والنظرة الزائدة سببًا كافيًا للاختفاء خلف جدران القلعة الحمراء.

وكان بينهم من صاغوا قسم الثورة الأول:
علي عبدالمغني، الفتى الذي كان يرى في الوطن فكرةً مقدسة لا تُباع ولا تُشترى.
محمد مطهر زيد، الذي حمل فكر التنوير الديني والسياسي معًا.
عبدالسلام صبرة، عبداللطيف ضيف الله، محمد حسين العمري، وغيرهم من الضباط الذين جمعهم حلم واحد: أن تنهض اليمن من سباتها الطويل.

أما عبدالله السلال، فكان في البداية الاسم الذي يُهمس به احترامًا لا تحديًا.
لم يكن يكثر من الظهور في تلك اللقاءات، لكنه كان الظل الثقيل الذي يمنح التنظيم شرعية الصمت وقوة الانضباط.
فهو الأكبر مقامًا في الجيش، والأقرب إلى القصر، والرجل الذي تهابه العيون ولا تجرؤ على الشك فيه.

كان علي عبدالمغني يدرك تمامًا أن الثورة تحتاج إلى “واجهةٍ شرعية” من داخل النظام نفسه، إلى رجلٍ يُصدّق الناس أنه من أهل القصر، بينما هو في الحقيقة من صُنّاع الفجر.
وجد ذلك في السلال، ورآه كما لو أن القدر أعدّه منذ ثورة 1948 ليكون الرمز العسكري والسياسي للانقلاب المنتظر.

في تلك الليالي الطويلة، كانت الخطط تُرسم بخيوطٍ من الحذر.
أوراق صغيرة تُكتب وتُحرق بعد قراءتها، كلمات مشفرة تُتداول في المعسكرات، وإشاراتٍ سرية تُمرّر بين الضباط في التدريبات اليومية.
كانوا يعرفون أن أي خطأ قد يعني النهاية للجميع، لكنهم آمنوا أن الحرية تستحق المغامرة، حتى لو كانت النهاية على المشنقة.

أما السلال، فكان يراقب المشهد كله بعينٍ من حديد.
لم يكن قائدًا متحمسًا يُلوّح بالشعارات، بل مهندسًا صبورًا يبني الثقة بين الضباط، ويوجههم دون أن يظهر في المقدمة.
كان يردد في جلساته الضيقة:

“لن نسقط الإمام بالكلمات… بل بالانضباط. الثورة لا تحتاج إلى غضبٍ، بل إلى دقة ساعةٍ في يد جندي .”

وهكذا، شيئًا فشيئًا، تحوّل الحلم إلى تنظيمٍ متكامل له خلاياه في الحرس الملكي، وفي معسكرات صنعاء، وفي المدارس العسكرية، بل وحتى في بعض دوائر القصر ذاته.
لقد أصبح السلال القلب النابض الذي يربط بين الأطراف، والجسر الذي يصل بين الحلم الممنوع والفعل القادم.


الخلاصة :
في تلك الليالي الهادئة، كانت صنعاء نائمة على سطحٍ هش من الطمأنينة، بينما تحتها كانت نيران الضباط الأحرار تشتعل بهدوءٍ قاتل.
كانوا يتدرّبون على الصمت كما يتدرّب الجنود على الرماية، ينتظرون تلك اللحظة التي تتساوى فيها المخاطرة بالحياة مع معنى الحياة نفسه.

وكان عبدالله السلال، في مركز الدائرة، يراقب الزمن كقائدٍ يعرف متى تضرب المدافع، لا قبل ثانيةٍ ولا بعدها.

بين القاهرة وصنعاء … 
جسر التواصل القومي

كانت الستينيات تقترب بخطى سريعة، والعالم العربي يعيش مخاضًا فكريًا وجهاديًا غير مسبوق.
في القاهرة، كان صوت جمال عبدالناصر يدوّي في الإذاعات:
يتحدث عن الحرية، والوحدة، وكسر قيود الاستعمار، وبناء الأمة من المحيط إلى الخليج.
وفي صنعاء، كان ذلك الصوت يصل خافتًا عبر أجهزة الراديو القديمة، لكنه كان كافيًا لإشعال الحنين إلى الحرية في صدور اليمنيين الذين حُرموا حتى من حق الحلم.

لقد أصبحت القاهرة بالنسبة لجيل السلال أفقًا مفتوحًا، لا مجرد عاصمة عربية.
فمنها انطلقت الشرارة التي قالت للعالم إن “الضباط الأحرار” يمكن أن يُسقطوا الملوك ويقيموا الجمهوريات، وإن “الجندي العربي” قادر على أن يكتب البيان الأول لتاريخ جديد.
كان اليمنيون يرون في ثورة يوليو مرآة لأحلامهم المؤجلة، والسلال — الذي عاش تجارب 48 والسجن والإخفاق — رأى فيها البرهان الحي أن ما فشل بالأمس في صنعاء، قد ينجح غدًا إذا توفرت له العزيمة والتنظيم والظرف.

ومن هنا بدأ الجسر الخفي بين العاصمتين.

رسائل غير معلنة …
واتصالات غير رسمية

مع اتساع الوعي القومي في صفوف الجيش اليمني، بدأ الضباط الأحرار يبحثون عن سندٍ فكري ومعنوي يعزز مشروعهم.
كانت اللقاءات الأولى مع بعض البعثات المصرية أو المراسلين العرب، لكنها سرعان ما تطورت إلى تواصل غير معلن مع مسؤولين مصريين مهتمين بالشأن اليمني.

لم يكن الهدف دعمًا عسكريًا مباشرًا في البداية، بل تبادل الرؤى والأمل: 
كيف يمكن لليمن أن تخرج من عزلتها، وأن تتصل بالعصر.
وكان السلال، بحكم رتبته وموقعه، حلقة الوصل الصامتة التي تمرّ عبرها الإشارات دون أن تُفهم.
فهو الضابط الذي يحظى بثقة الإمام، ويمتلك حق التحرك بين المعسكرات والوفود، ويستطيع أن يلتقي المندوبين العرب دون أن يُساءل كثيرًا.

لقد لعبت تلك المسافة المزدوجة بين الولاء والتمرد دورها بذكاء.
فبينما ظنّ الإمام أحمد أنه يملك ولاء السلال، كانت القاهرة تعرف أن هذا الرجل هو الرهان القادم في قلب اليمن.
ولذلك، حين كان بعض الضباط الشباب يتسللون إلى مصر في بعثاتٍ أو زياراتٍ قصيرة، كانوا يحملون معهم رسائل مشفرة أو إشاراتٍ من السلال، فيها روح رجلٍ يفكر للأمة كلها، لا لوطنه فحسب.

بين الفكر القومي …
والواجب الوطني

لم يكن السلال من رجال البلاغة أو التنظير السياسي، لكنه امتلك فطنةً استراتيجية نادرة:
فقد فهم مبكرًا أن أي ثورة يمنية معزولة عن بعدها العربي ستُسحق، وأن نجاحها يحتاج إلى غطاءٍ قومي يحميها من الداخل والخارج.
كان يؤمن بأن اليمن ليست جزيرةً منسية، بل حلقة في عنق الأمة، وأن تحررها سيسهم في تحرر العرب جميعًا من إرث القرون.

ومن هنا، لم يكن تواصله مع القاهرة مجرّد تودّد سياسي، بل خطة بعيدة المدى.
كان يهيّئ، ببطءٍ وذكاء، شبكة فهمٍ متبادل بين القاهرة وصنعاء، حتى إذا جاء اليوم الموعود، تجد الثورة من يفهم لغتها ويدرك مشروعها.

القاهرة … 
الحاضنة الكبرى للفكرة

وحين كان الضباط الأحرار في صنعاء يجتمعون سرًا، كانت القاهرة تتابعهم من بعيد، تُرسل إشارات الدعم المعنوي، وتفتح لهم نوافذ الأمل في إعلامها وخطابها.
كانوا يسمعون ناصر يقول في خطابٍ جماهيري:

“الحرية ليست هدية من حاكم، بل حق ينتزعه الشعب .”

وكانت هذه العبارة وحدها كافية لتجعل شابًا في الحرس الملكي يقرر أن موته في سبيل الحرية حياةٌ للوطن.

لم يكن الدعم المادي قد بدأ بعد، لكن التأييد الرمزي كان أعظم من أي سلاح.
فقد شعر الضباط الأحرار، وعلى رأسهم السلال، أن العالم العربي يقف خلفهم، وإن بصمتٍ نبيل.
وكان ذلك كافيًا لأن يدفعهم خطوة أخرى نحو المجازفة الكبرى.

وهكذا، بينما كان الإمام أحمد يتفاخر بأن اليمن “منغلقة على نفسها”، كانت الخيوط القومية تمتدّ تحت عرشه دون أن يشعر.
وكان السلال يمسك بأحد طرفيها في صنعاء، بينما الطرف الآخر يتماوج في القاهرة، حيث يولد النور من جديد.

لقد صار الارتباط بين العاصمتين علاقة قدرٍ لا صدفة، وستكون تلك الصلة بعد قليل الرافعة التي تحمل فجر 26 سبتمبر على كتفها، حين تنفتح أبواب اليمن على التاريخ، وتُطلّ الشمس من بين البنادق.

وفاة الإمام أحمد … 
وبداية العدّ التنازلي

كانت السنوات الأخيرة من حكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين ثقيلةً كمرضٍ لا يُشفى، مزيجًا من القسوة والريبة، ومن صمتٍ يختبئ خلفه خوفٌ دفين.
كان الرجل يدرك أن الريح تغيّر اتجاهها، وأن زمن العزلة يترنّح أمام أبوابٍ تُفتح في العالم العربي.
لكنه، على طريقته القديمة، حاول أن يُمسك بالعصر من ذيله، لا من قلبه؛ فزاد قمعه كلما شعر بأن سلطانه يتصدّع.

وفي قصور تعز وصنعاء، كانت الشائعات عن مرضه تتسرّب همسًا بين الحرس، وكان كل ضابطٍ في الجيش يقرأ تلك الأخبار كما يقرأ علامات القدر.

كان الجميع يعلم أن موت الإمام لن يكون مجرد حدثٍ سياسي، بل زلزالًا نفسيًا وتاريخيًا سيعيد خلط الأوراق في اليمن كلها.

وفي سبتمبر من العام 1962، اشتدّ المرض بالإمام، وأُعلن في الأوساط الضيقة أنه يصارع الموت.
لم يكن أحد يتجرأ على إظهار الفرح، لكن خلف الوجوه الواجمة كانت العيون تلمع بشيءٍ من الأمل.
لقد أحسّ الضباط الأحرار أن اللحظة التي انتظروها لسنواتٍ طويلة بدأت تلوح من وراء الأفق، وأن التاريخ يتهيأ أخيرًا لأن يُنصت إليهم.

انتقال العرش … 
وارتباك القصر

في 19 سبتمبر 1962، أُعلن رسميًا عن وفاة الإمام أحمد في تعز، وتولّى الحكم من بعده ابنه محمد البدر، الذي سارع إلى صنعاء لتسلّم مقاليد السلطة.
كان البدر يحاول أن يبدو مختلفًا عن أبيه، يتحدث بلغةٍ ناعمة عن الإصلاح والانفتاح، ويَعِد الضباط بالتقريب والمشاركة.
لكن الضباط الأحرار — وعلى رأسهم السلال — كانوا أذكى من أن يُخدعوا بالمظاهر.
لقد عرفوا الرجل عن قرب، وعرفوا أنه، رغم مظهره الهادئ، يحمل في داخله نفسَ الوراثة الإمامية القديمة، وأن حكمه لن يكون سوى امتدادٍ لحكم أبيه بأسلوبٍ جديد.

وبينما كان القصر مشغولًا بمراسم العزاء وتنصيب الإمام الجديد، كانت الخلايا الثورية في الجيش تتحرّك بهدوءٍ نادر.
في الظاهر، يصطفّ الضباط لتقديم البيعة للبدر، لكن في السرّ كانوا يكتبون البيان الأول للجمهورية.

لقد أدرك السلال، بخبرته الطويلة، أن السلطة في تلك اللحظة معلقة في الهواء:
القبائل لم تحسم ولاءها، والجيش في حالة انتظار، والناس بين الشك والأمل.
كانت تلك الفوضى السياسية الغطاء المثالي لأي عملٍ كبير.

من الانتظار …
إلى القرار

بدأت الاجتماعات تُعقد بوتيرةٍ أسرع.
لم يعد الحديث عن الثورة همسًا في العتمة، بل صار خطةً بجدولٍ زمني.
في منزل الضابط علي عبدالمغني، اجتمع قادة التنظيم السري لتحديد ساعة الصفر.
كان الجميع يعرف أن كل تأخير يعني ضياع الفرصة، وأن أي تردد سيعيد الإمامة إلى كامل سطوتها.

قال أحدهم:
 “لقد رحل الإمام القديم، والبدر اليوم في القصر… إننا بين موتين: 
موتٍ مضى، وآخر ينتظرنا إن تأخرنا .”
فأجاب السلال بصوته الهادئ الذي اعتاده الجنود:

“البدر يظن أن العهد بدأ، لكنه لا يعلم أن التاريخ قرر أن ينتهي الليلة .”

بهذه الكلمات، بدأ العدّ التنازلي للفجر الجديد.

لحظة الحسم …
تقترب

في الأيام التي تلت تولّي البدر الحكم، انشغل الأخير بإعادة ترتيب حرسه وتنصيب مقربين جدد.
أما الضباط الأحرار، فكانوا يعدّون العدة للانقضاض.
تم وضع الخطط لتقسيم المهام:
 • السيطرة على قصر الإمام.
 • احتلال الإذاعة لإعلان البيان الأول.
 • وتأمين قصر السلاح، حيث المفتاح العسكري لكل شيء.

وكان على رأس هذا العمل الأخير عبدالله السلال نفسه، بحكم موقعه في الحرس الملكي.
كان يدرك أن لحظة فتح بوابات القصر هي اللحظة التي تفصل بين التاريخين — بين اليمن القديمة واليمن الجمهورية.

الخلاصة :
هكذا بدأت الليالي الأخيرة من الحكم الإمامي تمضي ببطءٍ قاتل، فيما كانت عقارب الساعة تتحرك في الاتجاه المعاكس من داخل الثكنات.
لم يكن أحد في القصر يدرك أن الموت الذي خطف الإمام أحمد قد فتح الباب لحياةٍ جديدة للأمة كلها، وأن ابنه البدر سيجد نفسه بعد أيامٍ قليلة يطارد ظلًّا اسمه الجمهورية.

كان عبدالله السلال صامتًا أكثر من أي وقتٍ مضى، لكن صمته هذه المرة لم يكن طاعةً، بل هديرًا مكتومًا ينتظر أن ينفجر مع أول خيط فجرٍ في 26 سبتمبر.

الساعات الأخيرة …
قبل الانفجار

كانت صنعاء في تلك الليلة هادئةً على نحوٍ مريب، كأنها مدينة تخاف أن تتنفس.
الأسواق أغلقت أبوابها مبكرًا، والجنود في معسكراتهم يتحركون بأوامر عادية، لكن شيئًا غامضًا كان يملأ الهواء، إحساسٌ ثقيل بأن هناك ما يُطبخ في أعماق الليل.

في قلب المدينة، وتحت ظلال قصر السلاح، كان عبدالله السلال يقف على مفترقٍ بين حياته القديمة وتاريخه القادم.
كان يعرف أن أي خطأ، أي همسةٍ مبكرة، قد تودي بالجميع إلى المشانق.
ومع ذلك، كان داخله هادئًا كقائدٍ يقرأ القدر في خريطةٍ واضحة.
كل شيء كان جاهزًا: 
الرجال، الخطط، التوقيت، والنية التي لا رجعة عنها.

لقد تقرر أن تكون ليلة الخامس والعشرين من سبتمبر 1962 هي الليلة الفاصلة، وأن يعلن الفجر التالي عن ولادة الجمهورية العربية اليمنية.
كان تنظيم الضباط الأحرار قد وزّع الأدوار بدقةٍ تليق بعمليةٍ عسكرية عالمية لا محلية:
 • مجموعة تتولى اقتحام دار البشائر، مقرّ الإمام البدر.
 • وأخرى تسيطر على مقرّ الإذاعة لبثّ البيان الأول.
 • وثالثة بقيادة السلال، مهمتها السيطرة على قصر السلاح، الشريان الذي ستتغذّى منه الثورة بالحديد والنار.

قصر السلاح … 
قلب الثورة النابض

في تلك الساعات الحرجة، كانت ثقة الإمام بالبدر والسلال ما تزال قائمة.
ولذلك، حين تحرّك السلال بين الحراس، لم يثر ريبة أحد.
كان يبدو كما اعتادوه: 
صارمًا، صامتًا، يؤدي واجبه بجديةٍ عسكرية لا تشي بأي تمرد.
لكن خلف هذه الهدوء، كانت الخطة تُنفّذ حرفًا حرفًا.

بإشارةٍ منه، فُتحت بوابات القصر، ودخلت مجموعات صغيرة من الضباط الأحرار متنكرين في زِيّ الحرس النظامي.
لم يشعر أحد أن التاريخ يتسلل من الباب ذاته الذي اعتاد عليه الجنود كل يوم.
وما إن تجاوزت المجموعة الأخيرة الأسوار، حتى أدرك السلال أن المفاتيح الآن في يده — وأن لحظة الولادة الكبرى قد بدأت.

لحظات …
ما قبل الفجر

في منزلٍ بحيٍ صغير ، كان علي عبدالمغني ورفاقه يراجعون البيان الأول للثورة.
كُتبت كلماته بخطٍّ متينٍ على ورقةٍ مرتعشةٍ من الحماسة:

“أيها الشعب اليمني العظيم… قامت ثورتكم المباركة للقضاء على الحكم الفردي وإعلان النظام الجمهوري .”

كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، حين صدرت الإشارة إلى كل المجموعات:

“ ابدأوا… باسم الله، وباسم اليمن، وباسم الشعب .”

انطلقت التحركات في كل اتجاه، كأن صنعاء كلها تنهض من نومٍ عميق على وقع البنادق.
دوّى الرصاص في أطراف المدينة، ثم اقترب من قلبها شيئًا فشيئًا.
في تلك اللحظة، كان الإمام البدر في دار البشائر، لم يُدرك بعد أن الحرس الذين حوله لم يعودوا كلهم من رجاله، وأن السلال فتح أبواب التاريخ قبل دقائق.

 الفجر …
 الذي غيّر وجه اليمن

مع أولى ساعات الفجر، دوّت المدافع من قصر السلاح لتُعلن للعالم أن شيئًا عظيمًا يحدث في صنعاء.
أُطلقت القذائف الأولى على دار البشائر، وارتجّت المدينة العتيقة بصدى الانفجار.
لم يطل الوقت حتى سرت الأخبار في الشوارع: 
الإمام قُتل أو فرّ، الجيش أعلن الثورة!

في تلك اللحظة، كانت الإذاعة الرسمية تحت سيطرة الثوار.
وقف أحد الثورا، بصوتٍ واثقٍ لكنه مفعم بالعاطفة، ليقرأ البيان الأول للجمهورية.
كانت كلماته كالرصاص، تخترق الصمت الذي استمر قرونًا:

“ أيها الشعب اليمني العظيم… قامت ثورتكم المباركة للقضاء على الحكم الفردي وإعلان النظام الجمهوري العادل …”

وبينما يتردّد صدى البيان في بيوت صنعاء، كان عبدالله السلال يخرج من قصر السلاح هادئ الملامح، شامخ الخطوة، وقد بات قائدًا لدولةٍ جديدة ووجهًا لعصرٍ جديد.

 لحظة …
الحسم

لم يكتفِ السلال بتأمين السلاح؛ بل بدأ فورًا بتنسيق انتشار القوات في شوارع العاصمة، لضمان السيطرة الكاملة ومنع أي مقاومة مرتدة.
كان يعرف أن النصر لا يُقاس بإطلاق الرصاص، بل بقدرة الثورة على البقاء بعده.
ومنذ الساعات الأولى، ظهر كقائدٍ يمسك بزمام الأمور بحزمٍ لا يلين.

وبينما كانت جموع الشعب تخرج إلى الأزقة والساحات تهتف بحياة الجمهورية، كان هو يقف أمام ضباطه قائلاً بصوته الهادئ الحاسم:

“ لقد سقط عهد العزلة… واليمن اليوم تبدأ من جديد .”

الخلاصة :
كانت تلك الليلة، ليلة السادس والعشرين من سبتمبر، ولادة اليمن الحديث.
الليل احترق ليولد الفجر، والرصاص كتب أول صفحة من كتاب الجمهورية.
ومن بين الدخان والدموع والفرح، وقف رجلٌ بسيط من سنحان اسمه عبدالله السلال، يُدرك أن القدر اختاره لا ليُغيّر نظامًا فقط، بل ليفتح للأمة باب التاريخ من جديد .

آخر الأخبار