بحث

رسالة مفتوحة إلى المبعوث الأممي إلى اليمن: عن جوهر السلام لا شكله

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

رسالة مفتوحة إلى المبعوث الأممي إلى اليمن: عن جوهر السلام لا شكله

سعادة السيد هانز غروندبرغ،

المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن،
تحية السلام التي نرجوها لليمن بأسره، لا شعاراً يُرفع في المؤتمرات، بل واقعاً يُبنى على الأرض، ويُحفظ بضمير العالم وعدالة موقفه.

سعادة المبعوث،
من يتابع مسار تحركاتكم خلال الفترة الماضية، يلحظ بوضوح أن دوائر اهتمامكم تميل في معظمها نحو التواصل مع الأطراف المسلحة التي تتصدر المشهد اليمني، بحكم ما تملكه من قوة ميدانية، لا بالضرورة من شرعية تمثيل أو عمق وطني في القرار.
ولئن كان من الطبيعي أن تسعوا للحوار مع من يمسك بزناد الحرب لعلّه يُخفضه، إلا أن جوهر الإشكال يكمن في أن هذا الزناد ليس يمنياً خالصاً؛ فمعظم هذه القوى، كما تدركون، ترتبط في تمويلها وتسليحها وتوجهها السياسي بعواصم خارج الحدود، ما يجعلها أقرب إلى وكلاء إقليميين يتصارعون على أرض اليمن، لا ممثلين حقيقيين لإرادة اليمنيين.

إن الرهان على أدوات الصراع دون مساءلة من يُحركها ويمولها، لا يمكن أن يثمر سلاماً مستداماً، بل يكرّس دائرة مغلقة من “تهدئات محسوبة” تُدار إقليمياً وتُستهلك أممياً.
فحين تُترك مصادر القرار خارج طاولة الحوار، تصبح جهود الوساطة، مهما حَسُنت نواياها، إدارةً للأزمة لا حلاً لها، وتسكيناً للوجع لا علاجاً لجذره.

أما ما يثير الاستغراب حقاً، سعادة المبعوث، فهو غياب الصوت المدني عن دوائر اهتمامكم، وكأن السلام في اليمن شأنٌ يخص من يحمل السلاح وحده، لا من يحمل الوطن في قلبه.
تلك الفئة المدنية التي دفعت أثمان الحرب من أمنها وأرزاقها وكرامتها، تظل — رغم الألم — الأكثر إخلاصاً للسلام والأصدق إيماناً بجدواه.
إنهم لا يمتلكون صواريخ ولا ميليشيات، بل يمتلكون وعياً ناضجاً وإيماناً بوطن يُبنى بالحوار لا بالبارود، وبالمواطنة لا بالوصاية.
هؤلاء هم القوة الصامتة التي يمكن أن تُشكل الرافعة الأخلاقية والسياسية لأي عملية سلام حقيقية، لأنهم — ببساطة — أصحاب المصلحة في إنهاء الحرب لا في إدارتها أو الاستثمار في استمرارها.

إن تهميش القوى المدنية لا يُعد مجرد ثغرة في منهجية المشاورات، بل يحمل إيحاءً خطيراً مفاده أن الطريق إلى طاولة السلام لا يُعبد إلا بالبندقية.
وهو منطق معكوس، يُغري الشباب على حمل السلاح لا دفاعاً عن قضية، بل لإثبات الوجود في معادلة سياسية باتت تكافئ القوة لا الفكرة.
وهنا تكمن الكارثة الحقيقية: أن تتحول لغة السلاح إلى بوابة الشرعية، وأن يُستبعد صوت العقل لصالح صوت السلاح.

ذلك، يا سعادة المبعوث، ليس سلاماً يُبنى، بل فوضى تُدار، ولا وساطة أممية رشيدة تكتمل وهي تغض الطرف عن الركيزة المدنية للسلام، التي تمثل الضمير الجمعي لليمنيين، والمفتاح الأخلاقي لأي تسوية عادلة ومستدامة.

لقد آن الأوان، سعادة المبعوث، لأن تنتقل مقاربة الأمم المتحدة في اليمن من إدارة الصراع إلى صناعة السلام، ومن منطق الموازنة بين البنادق إلى مبدأ الإنصاف بين الضحايا.
فاليمن لا يحتاج إلى من يضبط إيقاع الحرب، بل إلى من يزرع شروط السلام العادل.
فالسلام الحقيقي لا يُقاس بعدد الاجتماعات أو التوقيعات على الأوراق، بل بمقدار ما يزرعه في النفوس من أمل، وما يعيده إلى الأرض من كرامة، وما يوقفه من نزيفٍ طال أمده حتى كاد يصبح عادةً مؤلمة.

إن إشراك القوى المدنية، والنخب المستقلة، والقيادات المحلية النزيهة، ليس ترفاً سياسياً ولا استجابة شكلية لمبدأ الشمولية، بل ضرورة استراتيجية لإنقاذ ما تبقى من روح الوطن.
فهؤلاء وحدهم يمتلكون المصلحة الصافية في بناء الدولة، لا في اقتسام الغنيمة، ويمثلون الضمير الجمعي الذي يمكن أن يُعيد للسلام معناه الإنساني قبل أن يتحول إلى ملف تفاوضي بين أمراء الحرب.

سعادة المبعوث،
نحن لا نجادل في نواياكم الطيبة، ولا نشكك في رغبتكم الصادقة في إنهاء مأساة اليمن، غير أن النوايا وحدها لا تصنع سلاماً إذا لم تُترجم إلى شجاعة في الموقف ووضوح في الاتجاه.
لقد قال الحكماء إن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، وما أكثر ما تحوّلت المساعي النبيلة إلى أدوات لإطالة الصراع حين غابت عنها الجرأة في مواجهة الجذور الحقيقية للحرب، لا مظاهرها السطحية.

إن السلام لا يُصنع في أروقة المؤتمرات ولا أمام عدسات الكاميرات، بل في القرارات الصعبة التي تواجه من يمول ويقرر ويُسيّر، لا من يُنفذ ويُبرر ويُستَخدم.
وحين تُوجَّه البوصلة نحو منبع القرار لا مصبّه، عندها فقط يمكن القول إن جهودكم قد سارت في الاتجاه الصحيح، وأن صوت العدالة بدأ يجد طريقه إلى مسامع العالم.

فاليمن، يا سعادة المبعوث، لا يحتاج إلى مزيدٍ من الوسطاء بقدر ما يحتاج إلى ضمير دولي يقظ، ورؤية تخرج من بين دخان البنادق لتبصر الإنسان لا المقاتل، والوطن لا الجغرافيا.
اليمن لا يطلب معجزة، بل إنصافاً يعيد له حقه في الحياة، واعترافاً بأنه لم يُخلق ساحة لتصفية الحسابات، بل وطناً يريد أن يعيش بسلامٍ يليق بتاريخه وكرامة أبنائه.

سعادة المبعوث،
ليست رسالتنا هذه اعتراضاً على دوركم، ولا تجريحاً في نواياكم، بل نداءٌ للعقل والضمير كي يُستعاد التوازن في مهمتكم، وتستعيد الأمم المتحدة دورها كـ جسرٍ للعبور إلى سلامٍ حقيقي، لا منصة لإعادة تدوير الحرب بأسماء جديدة وشعارات قديمة.

فالسلام، يا سعادة المبعوث، لا يولد من المكاتب المغلقة، بل من أصوات الناس الذين فقدوا كل شيء إلا إيمانهم بالحياة.
ومن أراد سلاماً دائماً، فعليه أن يُصغي إلى أنين من تهدّمت بيوتهم، لا إلى روايات من هدمها؛ لأن صوت الضحية هو وحده القادر على تذكير العالم بمعنى العدالة، ومعنى الوطن.

والسلام — كما نرجوه لليمن — ليس توقيعاً ولا اتفاقاً، بل ضميرٌ حيٌّ يختار الحياة على الحرب، والإنصاف على التوازنات، والإنسان على المصالح.

والسلام على من اتبع طريق السلام.

آخر الأخبار