بحث

اليمن وميلاد اللسان اليعربي – من الجذر السامي إلى الإشراق الحضاري (2-2)

مصطفى بن خالد

 

أوراق … من … التاريخ 
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

اليمن وميلاد اللسان اليعربي – من الجذر السامي إلى الإشراق الحضاري
(2-2)

الفصل الثالث: 
تفرّع اللهجات السامية من الأصل العربي اليمني

حين تتأمّل في جغرافيّة اللغات السامية، تلمح كالخيوط الممتدة من مركزٍ ضارب في التاريخ إلى حدودٍ بعيدة، وكلُّ خيطٍ منها يحمل معانٍ وأصداءً لصوتٍ أول قد انبثق في أرضٍ تحتضنه الشمس والأفلاك: 
أرضُ اليمن. 
إن فكرة أن هذه الأرض كانت الأصل الأعظم لتفرّع اللهجات السامية، ليست مجرّد تصور شعري، بل تستند إلى أدلّة لغوية ونقوش أثرية وحركات بشرية وماديّة تدعمها.

3.1 البنية اللغوية وانتقال الأصوات

إن أبرز ما يشير إلى الأصل اليمني لعدة لهجات سامية هو التشابه البنيوي العميق بين ما يُعرف بـ ‎السبئية و‎القتبانية و‎الحِميرية من جهة، وبين ما يُعرف لاحقًا بـ ‎العبرية و‎الآرامية من جهة أخرى. 

من خصائص هذه البنى المشتركة:
 • نظام الجذور الثلاثية الذي يُشتق منه المعنى، وهو عنصر أساسي في اللغات السامية القديمة. 
 • وجود الحروف الثّم “الصامتة” أو شبه الصامتة، والاخلاق الصوتية التي تحفظ «رشاقة» الصوت العربي القديم قبل أن تنحدر بعض الأصوات أو تتغيّر في لهجات لاحقة.
 • التأخّر النسبي للكتابة في بعض المناطق الشمالية بالمقارنة مع اليمن، ما يجعل اليمن مركزًا لغويًا مبكرًا للنشاط الكتابي واللفظي.

3.2 الهجرة اللغوية والمسالك الحضارية

إنّ التنوّع اللغوي في الجزيرة العربية ومن ثمّ نحو الشام وبلاد الرافدين لم يكن ناتجًا عن فجوة بل انبثق من حركة وتبادل:
 • اللوحات والنقوش في اليمن تشير إلى لغة سامية متقدمة (مثل النقوش السبئية والقتبانية) قبل القرن الأول قبل الميلاد.
 • الدراسات الحديثة ترى أن تفرّع الفروع الجنوبية السامية (South Semitic) — والتي تضم لغات اليمن القديمة ولغات شرق أفريقيا — نشأ في جنوب الجزيرة ثم تحرك نحو شمالها وشرقها. 
 • عبر الطرق التجارية، والتحولات السياسية، وحركات القبائل، تنتقل لهجات اليمن إلى الشمال والشرق، فتتحوّل أو تتجانس مع لكنات محلية، فتنشأ بعدها لهجات سامية شمالية (كالعبرية والآرامية) تكون فرعًا من الأصل الجنوبي اليمني.

3.3 أمثلة لغوية على الامتداد
 ‎
٠ سابِئية (Sabaic) وهي من لغات جنوب اليمن، لقد كانت لغة كتابة وكتابةً متقدّمة جدًا. 
 • لهجات مثل ‎رازِحية في جبل رَزيح شمالَ غرب اليمن، التي يُرى فيها بقايا لغوية تشبه «السّياق الجنوبي». 

 ‎٠ العبرية والمتفرّعة من العائلة السامية
 الوسط والشمالية، والتي تحمل جذورًا تشبه في كثير من المفردات العربية القديمة.

3.4 البُعد الحضاري واللهجي

إنّ خلق لهجات متعددة ليس عملية بسيطة، بل هي انعكاس لــ:
 • انبثاق حضاري: 
من اليمن كمركز لغوي - حضاري تفرّعت لهجاتٌ تنقل الفكر والكتابة والدين إلى الساميين في الشمال.
 • تكامل لغوي: 
الحروف، الأوزان، الاشتقاق، لم تكن تفردًا عند العرب الجنوبيين فقط، بل كانت «اللغة الأصل» التي تبنّاها من جاء بعدهم، بإخلاصٍ أو بتعديلٍ.
 • إبداع لهجي: 
اللهجات السامية كانت وسيلة إنتاج هوية، وتحريك ثقافة، وإطلاق طاقات فكرية. 
ولذلك، حين نتحدّث عن التفرّع، فإننا لا نتحدّث عن نزوعٍ إلى الانقسام فحسب، بل عن امتدادٍ غنيٍّ، كأنّ شعاعًا انطلق من مركزٍ، ثم تشعب إلى أشعّةٍ كثيرة، وكلّها تحمل نورًا من الأصل نفسه.

3.5 خلاصات تأملية
 • إن حقيقة أن نُظمًا كتابية فعالّة، وقواميس لغوية غنيّة، ظهرت أولًا في اليمن، تجعل من هذه الأرض «الأصل» وليس الفرع.
 • إن اللهجات السامية الأخرى (كالعبرية والآرامية) تُرى غالبًا كفرعٍ أو امتدادٍ، لا كبداية مُنفصلة.
 • إن الفهم العميق لذلك الامتداد يُعيد النظر في مفهوم «اللغة الأم» السامية، ويضع اليمن في عُنفوان تاريخي ولغوي، كمهدٍ أولٍ، كما تصوّرتَ في نصّي الأصلي.

الفصل الرابع: 
الإشراق الحضاري – كيف أسهم اليمن في تكوين الفكر الإنساني

إن الحديث عن اليمن ليس حديثًا عن جغرافيا أو تضاريس أو حدود مرسومة على سطح الخرائط، بل هو استدعاءٌ لذاكرة الإنسان الأولى حين بدأ ينظر إلى السماء متسائلًا، ويصوغ من صوته معنى، ومن رمزه هوية، ومن الأرض حضارةً تُروى.

فاليمن — في جوهر دوره الحضاري — كان منارة الوعي الأول الذي تفتّحت على ضوئه البدايات الكبرى في تاريخ الإنسان.

1. اليمن ومفهوم «العمران الأول»

لم تولد الحضارة اعتباطًا، ولا انبثقت من الفراغ، بل قامت على ثلاثة أركان:
 1. لسان قادر على التعبير
 2. استقرار إنساني منتج
 3. تصوّر كوني لعلاقة الإنسان بالعالم

وقد تحققت هذه الشروط في اليمن مبكرًا؛ إذ اجتمعت فيه الأرض الخصبة والماء المنظم والذهن البنّاء.

فمأرب وسدّها، والمعابد التي تصعد على سفوح الجبال، والنقوش التي تخلّد عقود التجارة والعهود السياسية، كلها شواهد على أن اليمن كانت دولة الوعي قبل أن تكون دولة الحجر.

2. اللغة كجسر بين الأرض والسماء

في الثقافة اليمنية القديمة، لم يكن الحرف مجرّد رمز صوتي، بل كان كيانًا يحمل قيمة روحية.

لقد رُسم الحرف على الحجر كما تُرسم العقيدة على القلب.
ومن هنا مفهوم:
الكلمة بوصفها خلقًا، والصوت بوصفه استمرارًا للوجود.

فحين نقرأ النقوش المسندية، نلحظ أن اللغة ليست وصفًا للواقع فحسب، بل صياغة له؛ فالكلمة تبني، وتنظم، وتشرّع، وتؤكد السلطة والهوية، وتربط الإنسان بذاكرته.

3. من اليمن إلى العالم: 
حركة التأثير الحضاري

تدفقت من اليمن موجات هجرةٍ وتجّار وكهنة وبناة، حملوا معهم اللسان والعقيدة والنظام والدلالة.

فانتشرت رموز الكتابة، وتحوّلت المفردة من لسانٍ واحد إلى ألسنة متعددة، تمامًا كما تنتشر نجمة في سطح ماءٍ صافٍ فتتكرر في انعكاساته دون أن تفقد أصلها.

لم يكن تأثير اليمن انتقالًا عابرًا، بل كان فاعلية ثقافية تمارس حضورها بصمت وعمق:
 • فالتجارة ربطت جنوب الجزيرة بالشام والرافدين.
 • والطقوس الدينية نشرت مفاهيم الزعامة والملك المقدس.
 • والبنية اللغوية زرعت فكرة الاشتقاق والجذر التي أصبحت أساس الفكر اللغوي العربي لاحقًا.

4. الشخصية الحضارية لليمن

تتميز الحضارة اليمنية بصفات جوهرية جعلتها قادرة على التأثير والاستمرار:
 • رصانة الحكم (الممالك المتعاقبة ذات البنية الإدارية المتقنة)
 • التنظيم الزراعي والهندسي (المدرجات الجبلية معجزة البشر - سد مأرب أعجوبة في العقل قبل الحجر)
 • الاعتزاز باللغة باعتبارها ذاكرة الأمة
وهذه العناصر الثلاثة هي التي تمنح الحضارات قابلية البقاء في التاريخ.

5. تأمل ختامي

إذا كان للإنسان في الوجود جذورٌ تعود به إلى بواكير وعيه، فإن اللسان هو الجذر الأعمق، والذاكرة هي التربة التي تتغذى منها الأمم، واليمن — بما حمل من حرفٍ ونقشٍ وصوت — كان أول البساتين التي نبتت فيها شجرة الوعي اليعربي.

لقد كان إشراق اليمن إشراقًا لغويًا وحضاريًا وإنسانيًا، وما من حضارة إلا وتحمل في جوهرها أثرًا من هذه البداية.

الفصل الخامس: 
الخاتمة – اللسان والهوية وخلود الذاكرة

ليس التاريخ في جوهره سردًا لما مضى، بل هو إعادة اكتشاف معنى الإنسان في معابره الأولى. 

وعندما ننظر في جذور اللغة، فإنما نبحث عن نقطة النبع التي انطلقت منها الروح وهي تصوغ تفكيرها، وتبني وجودها، وتقدّم نفسها للزمن في هيئة صوت.

ومن خلال هذا البحث، يتبيّن لنا أن اليمن لم يكن هامشًا من هوامش التاريخ، ولا ظلًا يسير خلف الحضارات، بل كان المركز الأول للوعي اللغوي والسلوك الحضاري في الشرق القديم، والمرجع الذي تتصل به اللغات السامية جميعها صلة الابن بجسد الأم.

فاللسان هو الرحم الثقافي الذي يولد فيه الإنسان مرتين:
 • مرةً في الجسد
  ٠ ومرةً في الصوت
وليس لأمةٍ أن تدّعي وجودًا ما لم تمتلك لسانًا يربطها بذاكرتها الأولى، وحضارةً تحفظ في حجرها اسم الإنسان الذي مرّ قبلها.

ومن هنا، تتجلّى قيمة اللسان اليعربي الأول الذي نشأ في اليمن:
لقد كان أكثر من لغة؛ كان هويةً ونظامًا للكون، كانت الكلمة فيه تشبه الطقوس، وترتبط بالمقدس، وتؤسس لمنطق الوجود.

وقد انتقلت هذه الروح في رحلتها الطويلة إلى الشمال، فخلّفت في العبرية والآرامية والسريانية آثارًا وامتدادات وأصداء من ذلك الأصل المعنوي العميق.

إننا إذ نقرأ النقوش اليمنية القديمة، لا نقرأ لغةً فقط، بل نقرأ وعيًا يرى العالم بصفاء من يعرف نقطة البداية.

ونحن إذ نتتبع تفرّع اللهجات السامية من اللسان اليعربي، فإنما نعيد للإنسان ذاكرته المفقودة، ونضعه في موضعه الحقيقي من الخريطة الحضارية.

ولذلك، فإن اليمن ليس حكايةً في التاريخ، بل هو المبتدأ.
واللغة ليست أداة، بل هي الأصل.
والإنسان ليس ابن جغرافيا، بل ابن ذاكرة.

وهكذا — حين نتأمل المسار الحضاري الطويل — ندرك أن أثر اليمن ليس أثر حضارة انطفأت، بل أثر جذوة ما تزال تضيء.

فالحضارات العميقة لا تُقاس بأبنيتها، بل بقوة الجذر الذي تستند إليه.

واليمن — بلسانه الأول وصوته الذي سبق أن يسمعه الزمن — هو الجذر الراسخ، وأمّ الحرف، وبنكُ اللهجات السامية كلّها،
منه انطلقت الأصوات، وعنه وُلدت الأبجديات، وفي ذاكرته تستريح بدايةُ الكلام.

آخر الأخبار