بحث

عبدالرحمن الإرياني … الرئيس الذي حكم بالعقل وغادر بالضمير

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

عبدالرحمن الإرياني … 
الرئيس الذي حكم بالعقل وغادر بالضمير

في زمنٍ كانت فيه فوهات البنادق تصوغ ملامح الدول، وكان الانقلاب هو اللغة الوحيدة المفهومة في ساحة السياسة العربية، خرج من بين جبال اليمن ووديانها رجلٌ نادر المثال، نحيل الجسد، عميق النظرة، يزن الأمور بميزان العقل والضمير قبل أن تزنها موازين القوة والمصلحة.

ذلك هو القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني — أول رئيس مدني في تاريخ الجمهورية العربية اليمنية، ورائد مدرسةٍ سياسيةٍ فريدة جمعت بين الحكمة الزهدية والرؤية الوطنية العميقة، وبين نقاء الثائر ووقار القاضي. 

لم يأتِ إلى الحكم على صهوة دبابة، بل على سنام الفكر والاتزان، ولم يغادره تحت وطأة السلاح، بل بحكم الضمير واستعلاء الكرامة.

آمن الإرياني بأن بناء الدولة لا يكون بالدم، بل بالوعي، وأن الحوار أبلغ من الرصاص في حسم الخلافات. 

وحين كانت الصراعات تمزق الجسد اليمني، اختار أن يكون رجل التهدئة والتوافق، وأن يجعل من القيم بوصلة للقرار لا أداةً للزينة. 
في زمنٍ اختلطت فيه الشعارات بالدماء، جسّد هو معنى النقاء السياسي في أصفى صوره.

لم يكن الإرياني مجرد رئيسٍ عابر، بل كان حالةً فكريةً وسياسيةً نادرة في التاريخ اليمني الحديث — حالة رجلٍ مارس السلطة كعبادةٍ للوطن لا كغنيمةٍ منه، وغادر الكرسيّ مختارًا لا مكرهًا، بعد أن ترك خلفه إرثًا من النزاهة والتجرد والاتزان، ما زال يلمع وسط عواصف السياسة اليمنية المتقلبة.

لقد حكم بالعقل، وغادر بالضمير. 
وبين العقل والضمير وُلدت مدرسة الإرياني — مدرسة رجلٍ أدرك أن القيادة ليست امتلاك السلطة، بل الارتقاء بالإنسان، وأن من يحكم بالعدل يغدو خالدًا، حتى وإن غاب عن الكرسي.

من ظلال القرية …إلى ضوء الثورة

وُلد عبدالرحمن الإرياني عام 1910م في حين إريان محافظة إب، بين سفوحٍ تخبئ في ترابها نقاء الفطرة وعبق الحكمة اليمنية القديمة. 

وُلد في بيتٍ عامرٍ بالعلم والفقه والكرامة، حيث كان القرآن منهجًا للحياة لا مجرد تلاوة، وكانت التقوى ميراثًا لا شعارًا.

لكن القدر أراد أن تنفتح عينا الطفل على أول مشهدٍ للاستبداد الإمامي والكهنوت المتسلّط، وأن يلمس مبكرًا قسوة الظلم حين يطغى على الشعب والعلماء والمصلحين والأحرار.

كان ذلك في زمنٍ تُعَدّ فيه الكلمة الجريئة مجازفة بالحياة، ويُعدّ التفكير في الإصلاح خروجًا على المألوف.

ومن بين الدموع والدهشة، تخلّق في داخله معنى الثورة الأول: أن تقول “لا” حين يصمت الجميع، وأن تكون كلفة الكرامة — ولو كانت الحياة — أقلَّ من ثمن الخضوع

تابع الإرياني دراسته في المدرسة العلمية بذمار، متعمقًا في الفقه وأصول الشريعة، غير أن عقله لم يتوقف عند أسوار النصوص. 
فقد كان في داخله سؤالٌ أكبر من كل ما يُدرَّس:

 لماذا لا يكون لليمنيين دستورٌ يحتكمون إليه، وعدالةٌ تصونهم من الجور، ودولةٌ تُبنى على القانون لا على السلالة؟

من رحم ذلك السؤال وُلد الحلم الجمهوري — حلمٌ كان يسري في وجدانه قبل أن يُولد المسمّى نفسه بسنوات طويلة، كأن التاريخ كان يُهيئ قلبه ليكون أحد آباء الفجر اليمني الجديد.

من القاضي إلى …الثائر الدستوري

في أربعينيات القرن العشرين، حين كانت عدن ملاذًا للأحرار اليمنيين ومختبرًا للأفكار الجديدة، كان عبدالرحمن الإرياني واحدًا من العقول الهادئة التي حملت في أعماقها شرارة التغيير. 

هناك، في مقاهي المثقفين ومجالس المنفيين، أسّس مع رفاقه حركة الأحرار اليمنيين — النواة الأولى للحلم الجمهوري، والمشروع الفكري الأول لبناء دولةٍ يمنيةٍ حديثةٍ تقوم على الدستور والقانون لا على الوراثة والإمامة.

شارك الإرياني في ثورة الدستور عام 1948م، تلك المحاولة الجريئة لإقامة حكمٍ دستوريٍّ يحدّ من سلطة الإمام ويعيد للشعب كرامته، فتولّى فيها وزارة العدل، رمزًا لتلاقي الشريعة مع القانون، والحكمة مع الثورة. لكنّ الحلم لم يكتمل؛ إذ أُجهضت الثورة سريعًا، وتحوّل المصلحون إلى سجناء.

في قلعة حجة، ذاق الإرياني مرارة الأسر اثنتي عشرة سنة كاملة — اثنتا عشرة سنة من الصبر والتأمل وإعادة صياغة الذات. 
خرج منها أكثر صلابةً في إيمانه، وأعمق نضجًا في رؤيته، وقد تحوّل الغضب الثوري في داخله إلى حكمةٍ دستوريةٍ راشدة.

لم يخرج حاقدًا ولا ناقمًا، بل خرج متصالحًا مع الفكرة الأسمى: 
أن الثورة ليست انتقامًا من أشخاص، بل خلاصًا من نظامٍ ينتج الجهل والاستبداد. 
هناك، بين جدران الزنزانة، اكتشف أن بناء الإنسان أصعب من هدم الطغيان، وأن الحرية لا تستقيم إلا حين تُزرع في الوعي قبل أن تُكتب في الدساتير.

بعد سبتمبر: 
رجل الدولة الذي رمَّم الوطن

حين أشرقت شمس ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، وارتفعت راية الجمهورية فوق ركام قرونٍ من الحكم الإمامي، كان القاضي عبدالرحمن الإرياني أحد الذين كتبوا ملامح الفجر الجديد بالحبر لا بالبارود، وبالعقل لا بالصوت العالي. 
لم يكن من صُنّاع المدافع، بل من مهندسي الدساتير، ومن أولئك الذين أدركوا أن الثورة الحقيقية لا تكتمل إلا حين تنجب دولةً تُنظم الفوضى وتحمي الإنسان.

لكن طريق الجمهورية لم يكن مفروشًا بالورود. 
فبعد أن خمدت أصوات المدافع في الجبال، اشتعلت نيران الانقسام بين الثوار أنفسهم، وتنازعتهم الولاءات والجهات. 
في تلك اللحظة العاصفة، ارتفع صوت الإرياني هادئًا وحكيمًا — صوت الضمير الوطني الذي دعا إلى المصالحة بدل الإقصاء، وإلى الحوار بدل المدفع، مؤمنًا بأن الوطن لا يُبنى على الأطلال ولا على الكراهية.

وحين آلت إليه رئاسة الدولة عام 1967م، كانت البلاد تتنازعها البنادق والقبائل والعواصم الخارجية، وكان كل طريقٍ يقود إلى الهاوية. 
فاختار أن يحكم بالعقل لا بالقوة، وبالضمير لا بالمصلحة، مؤمنًا أن الزعامة ليست أن تُخيف الناس، بل أن تُطمئنهم.

في زمنٍ كان الكرسي يُطلب بالسلاح، جلس الإرياني عليه كمن يجلس على مسؤوليةٍ أمام الله والتاريخ، فصار رمزًا لحكمٍ مدنيٍ راشدٍ وسط محيطٍ يضجُّ بالجنون.

الجمهورية المدنية… حلمه الأعظم

كان حلم عبدالرحمن الإرياني الأكبر أن يرى للجمهورية قلبًا مدنيًا وعقلًا دستوريًا. 
وفي عهده تحقّق ذلك الحلم حين وُضع أول دستور مدني للجمهورية العربية اليمنية عام 1970م — دستورٌ فتح نوافذ جديدة للحرية، وأقرّ مبدأ فصل السلطات، ومنح المواطن قيمته قبل القبيلة، مؤكدًا أن الدولة لا تقوم على النسب، بل على القانون، ولا على الشعارات، بل على المؤسسات.

كان الإرياني يردد أن “الجمهورية ليست اسمًا يُرفع في الميادين، بل سلوكًا يُمارَس في الحياة”، وأن الوطن لا يُبنى بالصوت العالي، بل بصوت الضمير حين يكتب القوانين. 
لقد آمن أن المدنية ليست نقيض الدين، بل جوهره في العدل والكرامة والمساواة.

وفي ظل قيادته، توقفت الحرب الأهلية التي أنهكت اليمن بين الجمهوريين والملكيين، وتمّت المصالحة الوطنية الكبرى التي أنهت نزيف سبع سنوات دامية. 

لم يكن ذلك مجرد اتفاقٍ سياسي، بل كان فعلَ شجاعةٍ أخلاقيةٍ نادرًا في زمنٍ كانت فيه الكراهية تُدار بالرصاص، لا بالحكمة.

لقد أدرك الإرياني أن الدم لا يُطفئ النار، بل يغذيها، وأن الرحمة في السياسة ليست ضعفًا، بل ذروة القوة وامتحان الإنسانية في الحكم. 
لذلك دخل التاريخ لا بصفته رئيسًا انتصر، بل قائدًا سامح فأنقذ وطنًا من الفناء.

الإرياني … والوحدة اليمنية

من بين جميع القادة الذين تعاقبوا على حكم الشمال الوطن، كان القاضي عبدالرحمن الإرياني أكثرهم إيمانًا بأن اليمن لا يُختزل في نصف جغرافيا، وأن وحدة التراب لا تكتمل إلا بوحدة الوجدان. 

لم يكن ينظر إلى الوحدة كمشروعٍ سياسي أو قرارٍ إداري، بل كـ مصالحةٍ روحيةٍ بين شعبين عاشا في ظل نظامين مختلفين، وتفرقا في الشكل بينما جمعتهما الجذور والتاريخ واللغة والمصير.

ومن موقعه كرجل دولةٍ مدنيٍّ مؤمنٍ بالحوار، فتح الإرياني قنوات التواصل مع قادة الجنوب اليمني، واضعًا أسس تفاهمٍ وطنيٍّ يقوم على العدالة والتكافؤ لا على الغلبة والإملاء. 

كان يرى أن الوحدة الحقيقية لا تُفرض بالقوة، بل تُبنى على الرضا المتبادل والإرادة الحرة، لأن الوطن في نظره ليس صفقة تُوقَّع، بل عهدٌ تُؤمن به القلوب قبل أن تكتبه الأقلام.

قال الإرياني ذات مرة مقولته الخالدة:

 “ الوحدة لا تكون بالغلبة، بل بالرضا المتبادل، فالوطن ليس صفقة، بل عهد .”

بهذا البصيرة الثاقبة، نظر الإرياني إلى اليمن بعينٍ تتجاوز اللحظة الراهنة، عين فقيهٍ يقرأ العدل في النص، وسياسيٍّ يعي الضمير في الفعل. 

لقد رأى في الوحدة اليمنية أكثر من جغرافيا موحدة؛ إنها عهدٌ أخلاقيٌّ بين كل أبنائه، واحترام متبادل يشكل الأساس لكل بناء وطني حقيقي، مؤمنًا أن الانتماء للوطن يتجسد بالعدل والمساواة قبل أي قرار أو شعار .

زهد السلطة …وسمو الضمير

في الثالث عشر من يونيو عام 1974م، حين أطاحت حركةٌ عسكرية بقيادة إبراهيم الحمدي بحكمه، كان المشهد يتهيأ لتكرار ما عرفه اليمن من صراعات الدم والتشبث بالكرسي. 
غير أن عبدالرحمن الإرياني اختار أن يكتب فصلًا مختلفًا في كتاب السلطة العربية — فصلًا عنوانه الزهد والضمير.

لم يُطلق رصاصة، ولم يحشد قبيلة، ولم يستنجد بقوةٍ أجنبية. 
اكتفى بابتسامةٍ هادئة وقال كلمته التي خلدها التاريخ:

 “ ليحكم من هو أقدر على خدمة الوطن .”

خرج من القصر كما دخله: 
نظيف اليد، نقي السريرة، راضي الضمير. 
لم يحمل معه سوى حقيبته وبعض كتبه وأوراقه، وسافر إلى دمشق ليعيش في شقةٍ متواضعة، بعيدًا عن ضجيج السلطة وضوء الألقاب، حتى وافته المنية عام 1998م.

تلك النهاية وحدها تختصر سيرته: 
رجلٌ دخل التاريخ بلا حراب، وغادره بلا لعنة.

رجلٌ علّمنا أن الشرف لا يُقاس بطول البقاء في الحكم، بل بقدرة المرء على مغادرته مرفوع الرأس، مطمئن القلب.

إرث … لا يصدأ

اليوم، بعد عقودٍ من الصراع والتشرذم، يعود اسم عبدالرحمن الإرياني ليضيء في ذاكرة اليمنيين لا كرئيسٍ عابرٍ في سجل السلطة، بل كـ ضميرٍ جمهوريٍ نادرٍ ظلّ صوته يعلو فوق ضجيج البنادق. 

كان نموذجًا للسياسي الذي جمع بين الفقيه والمفكر، وبين التديّن الواعي والمدنية الرصينة، فآمن أن الحكم تكليفٌ لا تشريف، وأن الدين لا يعارض المدنية بل يؤسس لها، وأن الوطنية ليست انتماءً إلى قبيلةٍ أو جهة، بل انتماءٌ صادقٌ إلى العدل والكرامة والإنسان.

في فلسفته، لم يكن البناء يبدأ من القصور والمكاتب، بل من إصلاح الإنسان قبل المؤسسة، لأن الدولة في جوهرها مرآةٌ لأخلاق من يقودها. 
وكان يؤمن أن الكرامة لا تُمنح بنصٍ في الدستور، بل تُزرع في الضمير بالإيمان بالمسؤولية والواجب.

ترك الإرياني خلفه إرثًا فكريًا وسياسيًا لا يصدأ، يقوم على ثلاث قيمٍ كبرى تصلح أن تكون دستورًا أخلاقيًا للأمم:
 1. الحرية مسؤولة — لأن الحرية بلا وعيٍ فوضى.
 2. السلطة أخلاق — لأن الحكم بلا ضميرٍ استبداد.
 3. الوحدة عدالة — لأنها لا تقوم إلا على الإنصاف والمساواة.

وهكذا، يبقى عبدالرحمن الإرياني صوت الحكمة في زمن الانفعال، ورمز الضمير في ذاكرة وطنٍ أنهكته التجارب، رجلًا أثبت أن السياسة يمكن أن تكون عبادةً للوطن، وأن التاريخ — وإن طال — لا يصدأ حين يُكتب بنقاء القلوب.

رسالة … للشباب

إلى شباب اليمن وكل من يؤمن بوطنه، تذكّروا دائمًا أن التغيير الحقيقي يبدأ من الوعي والفكر والعمل المسؤول. 
كما علمنا عبدالرحمن الإرياني، القوة الحقيقية ليست في المدافع أو السيطرة، بل في العقل والضمير والحكمة في اتخاذ القرار.

كونوا فاعلين في مجتمعاتكم من خلال التعليم، والابتكار، والمبادرات المدنية، وحماية التراث والتاريخ. 

احرصوا على أن تكون جهودكم في بناء الوطن مبنية على النضال من أجل العدالة، والمساواة، والوحدة الوطنية، بعيدًا عن الانقسامات أو الهيمنة الخارجية.

اعلموا أن حماية الوطن لا تبدأ بالمواجهة مع الآخرين، بل بالوحدة ضد التواجد الاجنبي في بلادكم، وتمكين أنفسكم ومجتمعاتكم، وإصلاح ما حولكم، وزرع قيم الأخوة والعدل والمواطنة في كل مكان من أرض الوطن. 

الوحدة الحقيقية والمستقبل المزدهر لليمن لا يقومان إلا على وعي الأجيال الجديدة، ومبادراتهم البناءة، والتزامهم بالأخلاق قبل أي شعارات.

كونوا شبابًا يُحدث فرقًا بالعلم والعمل والنضال والإيمان بالواجب تجاه الوطن، فالتاريخ يكتب بأفعالكم، والضمير هو أعظم قوة للبقاء على الطريق الصحيح.

الخلاصة :
القاضي الذي أنصف التاريخ

رحل عبدالرحمن الإرياني بهدوءٍ يشبه صوته، تاركًا خلفه ضجيجًا من الأسئلة عن معنى السياسة حين تُمارس بالضمير، ومعنى الضمير حين يحكم بالعدل. 

كان آخر رجال الجيل النقيّ — أولئك الذين رأوا في الحكم واجبًا لا مصلحة، وفي الشعب مصدرًا لا وسيلة، وفي الوطن رسالةً تُؤدَّى لا غنيمةً تُقتسم.

لقد أنصف الإرياني التاريخ، لا لأنه انتصر في معركة، بل لأنه أعاد للسياسة معناها الأخلاقي، وللجمهورية وجهها المدني الإنساني. 

وإن كان لكل أمةٍ قديسها المدني، فإن اليمن — بكل ما حمل من جراحٍ وانكسارات — وجد في الإرياني قديسه الجمهوري، الرجل الذي أثبت أن الثورة لا تكتمل إلا حين تصير دولة، وأن الدولة لا تقوم إلا على الأخلاق.

ذلك هو القاضي الذي حكم بالعقل، وغادر بالضمير، وخلّد اسمه بالحكمة.

آخر الأخبار