شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
علي عنتر… ضمير الثورة وروح الوطن
في ذاكرة اليمن الحديث، تتشابك خيوط الثورة بالحلم، والدم بالقصيدة، والجبل بالبحر، لتصنع نسيجاً من العظمة والتحدي. وهناك، في قلب ذلك النسيج، يبرز اسم علي أحمد ناصر عنتر لا كرقمٍ في سجل الأبطال، بل كنبضٍ خالد في وجدان الوطن، وضميرٍ ناطق باسم المقهورين الذين حلموا بالحرية والكرامة والعدالة.
كان علي عنتر تجسيداً نادراً لمعنى الالتزام الوطني، خرج من رحم الأرض الفقيرة ليمنحها غنى المعنى، ومن بين صفوف الناس ليصبح واحداً من عناوينهم الكبرى.
لم يكن قائداً عسكرياً فحسب، بل كان مشروع وعيٍ متكاملٍ، وموقفاً أخلاقياً لا يعرف المساومة، ورؤيةً ثوريةً استشرفت آفاق الدولة العصرية التي لا تُبنى إلا على العدل والمساواة والوحدة.
في مسيرة علي عنتر تتلاقى شجاعة الميدان مع بصيرة المفكر، وصلابة المبدأ مع رهافة الإحساس بالوطن. عاش كأنه يستبق الزمن، يحمل في صمته ضجيج المستقبل، وفي قسماته ملامح أمةٍ تبحث عن ذاتها.
كان صوته في الميدان أكثر من نداءٍ للقتال؛ كان استدعاءً للكرامة، ودفاعاً عن فكرة الوطن بوصفه قدراً لا يُخان.
ولأنه صدق الحلم حتى آخر نبضة، صدقه التاريخ. بقي علي عنتر رمزاً للوفاء النادر في زمن الانكسارات، وواحةً من الإلهام في ذاكرة وطنٍ أنهكته التحولات. هو أحد أولئك الذين لم يتركوا للوطن خياراً سوى أن يخلّد أسماءهم، لأنهم ما خانوه، ولا خذلوه، ولا ساوموا على روحه.
عظمة القول… حين يتحول الوعي إلى بوصلـة وطن
لم تكن كلمات علي عنتر مجرد عبارة عابرة في لحظة حماسة ثورية، بل كانت خلاصة وعيٍ وطنيٍّ عميق تشكّل من رحم النار والرماد.
فحين قال:
“ ثورة سبتمبر أيقظت فينا الإيمان بأن الاستقلال ممكن، وأن اليمن لا يمكن أن يبقى منقسمًا بين إمامة واستعمار .”
كان يلخّص المسافة بين الوعي والقدر؛ بين شعبٍ خرج من ظلام القرون، وآخر يتهيأ لانتزاع فجره من فوهة بندقية.
في تلك العبارة تتجلى ثلاث طبقات من الإدراك السياسي والفكري لدى علي عنتر:
⸻
أولًا: الإيمان بالتحرر كحقيقة ممكنة لا كحلم مستحيل
عندما اندلعت ثورة 26 سبتمبر 1962م في الشمال، كان الجنوب لا يزال رازحًا تحت استعمارٍ بريطانيٍّ متجذر.
كانت عدن حينها مركزًا استعماريًا محصنًا، والمناطق الريفية منهكة ومجزأة بين السلطنات.
أن تُؤمن — وسط هذا الواقع القاسي — بأن التحرر ممكن، فذلك ليس تفاؤلًا ساذجًا، بل ثقة نابعة من قراءة عميقة للتاريخ.
رأى علي عنتر في ثورة سبتمبر أن الإنسان اليمني كسر أول قيوده، وأن النار التي اشتعلت في جبال الشمال ستضيء قريبًا جبال الضالع وردفان.
كان يؤمن بأن الثورة ليست حدثًا جغرافيًا بل عدوى روحية تنتقل بالكرامة، وأن انتصارها في صنعاء هو وعدٌ بتحرر عدن.
⸻
ثانيًا: رفض الانقسام بوصفه جريمة ضد الجغرافيا والإنسان
حين يقول: “ اليمن لا يمكن أن يبقى منقسمًا بين إمامة واستعمار ”، فهو لا يعبّر فقط عن موقفٍ سياسي، بل عن رؤية فلسفية لوحدة الكيان اليمني.
كان يدرك أن انقسام اليمن بين شمالٍ محكوم بالظلم الديني وجنوبٍ محتَلّ بالهيمنة الأجنبية، هو انقسام مصطنع، لا يعبّر عن تاريخ الشعب ولا عن طبيعته.
إنه يرفض الانقسام لا من باب العاطفة، بل من باب العدالة التاريخية؛
فمن وجهة نظره، لا يمكن لشعبٍ واحدٍ أن يعيش بنصف كرامة ونصف حرية.
كان يرى أن الوطن المنقسم جسدٌ ينزف من جهتين، ولا يمكن أن يشفى إلا إذا التحم جرحاه في وحدة عادلة، واعية، تقوم على المساواة لا على الغلبة.
⸻
ثالثًا: استبصار المستقبل عبر وحدة الثورة
هذه العبارة، وإن قيلت في لحظة انفعال وطني، إلا أنها تُظهر بُعدًا استراتيجيًا مبكرًا في فكر علي عنتر.
لقد فهم مبكرًا أن الثورتين (سبتمبر وأكتوبر) ليستا حدثين منفصلين، بل جناحين لطائرٍ واحد اسمه اليمن.
رأى أن الثورة في الشمال بلا تحرر الجنوب ناقصة، وأن استقلال الجنوب بلا تواصل مع الشمال هشّ ومهدد بالسقوط.
كان ينظر إلى الثورة لا كسلطةٍ جديدة، بل كـ مشروع وطني شامل لتجديد الإنسان اليمني كله.
⸻
إنسان … سبق زمنه
في قولٍ كهذا، نلمس المعنى الحقيقي للنخبة الثورية — النخبة التي لا ترفع الشعارات فقط، بل تفهم أن الثورة مسؤولية أخلاقية لا مغنم سياسي.
لقد أدرك علي عنتر أن الاستقلال لا قيمة له إن بقي جزءٌ من الوطن غارقًا في التبعية، وأن الحرية لا تكتمل إلا حين يتنفسها الجميع.
كانت كلماته بيانًا مبكرًا لوحدة الوجدان اليمني، قبل أن تكون الوحدة اتفاقًا سياسيًا على الورق.
ولهذا لا يمكن قراءة عبارته إلا باعتبارها وثيقة فكرية تؤسس لمفهوم “اليمن الواحد ذو المصير الواحد”.
لقد آمن أن الثورة ليست غاية، بل وسيلة لبناء وطنٍ عادلٍ لا إمام فيه ولا مستعمِر، لا ظالم ولا تابع، بل وطن حرّ يحكمه ضمير الإنسان اليمني ذاته.
من الضالع …!خرج الصوت
من بين صخور الضالع الصلبة ووديانها المتدفقة بالعزة، خرج الصوت الذي لم يعرف الانحناء.
في العام 1937م، وُلد علي أحمد ناصر عنتر في زمنٍ كانت فيه شمس الجنوب اليمني محجوبةً بظلال الاحتلال البريطاني، وتخضع أرضه لنظام السلطنات الموالية له.
في تلك الجبال التي تتنفس الكبرياء وتخزن في صدرها وجع التاريخ، تشكّل وعي الفتى على مرأى من مشاهد القهر، وسمع بأذنٍ يقظة صدى الثورات العربية التي كانت تشتعل من حوله، تبشر بعصرٍ جديدٍ من التحرر والكرامة.
لم يكن عنتر يحمل سوى إيمانه بأن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الوطن لا يُكتب بالحبر بل بالدم. ومن تلك القناعة البسيطة والعميقة في آنٍ واحد، وُلدت شرارة الإيمان بالفعل الثوري.
وحين انطلقت جبهة التحرير القومية عام 1963م، كان من بين رجالها الأوائل الذين اختاروا الطريق الأصعب والأصدق — طريق الكفاح المسلح، لا طريق الشعارات الرنانة.
في جبال ردفان والضالع، حيث التقت الأرض بالسماء في معارك الحرية، كان علي عنتر يخطّ حضوره بين رفاقه لا قائداً متعالياً، بل واحداً منهم، يقف في مقدمة الصفوف حين يدوّي الرصاص، ويحمل في عينيه وعد النصر كما يحمل في قلبه حنوّ الأب على رفاقه. كان يرى أن الثورة ليست مغامرة عابرة، بل عقيدة حياة، وأن السلاح لا يكون نبيلًا إلا إذا حُمل لأجل كرامة الناس لا لمجد الأفراد.
ومن هناك، من بين رائحة البارود وتراب المعارك، بدأ اسمه يتردد في الأوساط الثورية رمزًا للشجاعة والنزاهة والبساطة، وصار وجهه مألوفًا في ذاكرة الجنوب لا كصورةٍ عابرة، بل كملمحٍ من ملامح مرحلةٍ صنعت ذاتها بالعرق والدم والإيمان.
من الثورة إلى الدولة
حين أشرقت شمس الثلاثين من نوفمبر 1967م، معلنةً انتصار الجنوب واندحار المستعمر إلى حيث أتى، كان أمام الثوار امتحانٌ أشدّ من ساحات القتال:
امتحان البناء. فالثورة التي تحرّر الأرض لا تكتمل إلا إذا استطاعت أن تبني الإنسان والدولة معًا. وفي هذا المفترق التاريخي، بزغ نجم علي أحمد ناصر عنتر لا بوصفه مقاتلًا صلبًا فحسب، بل كرجل دولةٍ يمتلك بصيرةً عميقة ورؤيةً للمستقبل تتجاوز لحظة النصر إلى ما بعدها.
تسلّم وزارة الدفاع في زمنٍ كان الجيش فيه مشروعًا وليدًا، فجعله جيشًا للوطن لا للأفراد، ومؤسسةً للكرامة لا أداةً للسطوة.
آمن عنتر أن الثورة ليست حدثًا ينتهي بانسحاب المستعمر، بل مسارًا مستمرًا لتكريس العدالة وبناء الدولة الحديثة. وكان يردّد دائمًا أن «الثورة لا تكتمل إلا إذا تحوّلت إلى مؤسسات تخدم الناس» — ولهذا ربط بين البندقية والتنمية، وجعل من الولاء للمؤسسات لا للأشخاص قاعدةً مقدسة في فكره وممارساته.
ورغم التحولات العاصفة والصراعات الأيديولوجية التي عصفت بالجنوب آنذاك، ظلّ علي عنتر خارج دوائر الانغلاق الفكري. لم ينجرف خلف الشعارات المستوردة ولا وراء الاصطفافات العقائدية الضيقة، بل نحت مسارًا خاصًا به سمّاه «الاشتراكية اليمنية» — اشتراكية تنبع من نبض الناس لا من نصوصٍ بعيدة، تُقاس بعرق العامل، وبساطة الفلاح، وكرامة الجندي. كان يرى أن العدالة الحقيقية لا تُرفع على المنابر، بل تُمارَس على الأرض: حين يجد الفلاح طريقه إلى أرضه، والعامل إلى حقه، والجندي إلى احترامه في صفوف وطنٍ يقدّر أبناءه.
وهكذا انتقل علي عنتر من خنادق الثورة إلى أروقة الدولة دون أن يفقد روحه الأولى. ظلّ ثوريًا في منصبه، ومؤمنًا بأن البناء أسمى أشكال النضال، وأن أعظم انتصارٍ يمكن أن يحققه الثائر هو أن يصنع وطنًا يستحق الحرية التي قاتل من أجلها.
علي عنتر… رجل الوحدة قبل أن تكون شعارًا
في زمنٍ كان فيه الجنوب اليمني يبحث عن هويته بعد مخاض الثورة، وكان شمال الوطن يفتّش عن طريقٍ يتجاوز جراح التاريخ، كان علي أحمد ناصر عنتر ينظر أبعد من خطوط التقسيم، وأعمق من حدود الخرائط.
لم يرَ في الانقسام قدرًا، بل لحظةً عابرة في مسار وطنٍ واحدٍ تفرّق جسده وبقي قلبه واحدًا.
كان يؤمن أن اليمن لا يمكن أن يكون وطنًا كاملاً إلا إذا بُني على العدالة الاجتماعية، لا على الغلبة؛ على الاتفاق، لا على الفرض؛ وعلى المساواة، لا على الامتياز.
كان يقول لرفاقه في لحظات الصفاء الثوري:
“الوحدة ليست علمًا نرفعه، بل عدالةً نعيشها #.”
لم تكن الوحدة عنده شعارًا سياسيًا يُرفع في المناسبات، بل حالة وعيٍ وضميرٍ وكرامةٍ مشتركة.
سعى في أكثر من مناسبة إلى فتح قنوات التواصل مع الشطر الشمالي من الوطن، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا:
شراكة قائمة على الاحترام المتبادل والتكافؤ في المسؤولية والمصير.
كان يرى أن الوحدة الحقيقية لا تُبنى في القصور، بل في القلوب؛ لا تُفرض من فوق، بل تُصاغ من القاعدة، بين الناس، في الحقول والمصانع والمدارس، وفي وجدان الجنوب والشمال والشرق والغرب معًا.
ومن هذا الإيمان العميق، تحوّل علي أحمد ناصر عنتر إلى أحد الآباء المؤسسين لفكرة الوحدة اليمنية العادلة — الوحدة التي تقوم على الحرية والعدالة الاجتماعية والإنصاف والمساواة، لا على الإكراه أو فرض إرادة طرف على آخر.
لقد أدرك مبكرًا أن أي وحدة لا ترتكز على العدالة والمشاركة الحقيقية ليست وحدةً حقيقية للوطن، بل ناقوس تحذيرٍ للجراح التي قد تعيق مسيرة الأمة، وأن الاندماج الواعي والمبني على الاحترام المتبادل هو السبيل لبناء وطن متماسك وقويّ.
وهكذا ظلّ علي أحمد ناصر عنتر يرى في الوحدة مشروعًا للكرامة الوطنية قبل أن تكون مشروع سلطة، وفي اليمن بيتًا يتسع لجميع أبنائه، شرط أن تُبنى جدرانه على العدالة والمساواة والاحترام المتبادل، وأن يكون كل مواطن شريكًا فاعلًا في صنع مستقبل وطنه.
إرث … لا يموت
برحيل علي أحمد ناصر عنتر، خسر اليمن أحد أنبل أبنائه، ورحل صوتٌ كان يمكن أن يكون جسرًا بين شطري الوطن اليمني لا فاصلًا بينهما، وبوصلةً ترشد الحلم حين ضلّت دروبه.
لم يمت عنتر في الحقيقة، لأن الأفكار لا تُدفن، ولأن الرجال الذين صدقوا نداء الوطن لا يرحلون إلا جسدًا، فيما تبقى أرواحهم معلّقةً في ذاكرة الأرض التي أحبّوها.
بقي فكرُه حيًّا في ضمير كل من آمن بأن الثورة ليست سلطةً تُمارس، بل رسالةٌ تُصان، وأن الوطنية ليست انتماءً إلى حزبٍ أو جغرافيا، بل التزامٌ أخلاقي تجاه الإنسان.
واليوم، حين يُستعاد اسمه في الضالع وعدن ولحج وأبين، وفي صنعاء وتعز والحديدة وحضرموت، لا يُذكر كقائدٍ عسكري فحسب، بل كـ ضميرٍ وطنيٍّ نقيّ لم يساوم، ولم يتلوث بدمٍ أو فساد، ولم يعرف للذات طريقًا في ميدان الواجب.
ظلّ حتى اللحظة الأخيرة يؤمن أن الوطن أكبر من الحزب، وأن الإنسان أقدس من الشعارات، وأن النضال الحقيقي يبدأ من صدق النيّة ونقاء اليد.
رحل علي عنتر، لكنه ترك خلفه فكرةً تمشي على أقدام الأجيال، تشهد أن في هذا الوطن رجالًا حين مرّوا به جعلوه أوسع معنىً، وأعمق كرامةً، وأطهر ذاكرةً.
رسالة… للشباب
إلى شباب اليمن، إلى أولئك الذين ما زالوا يحملون في صدورهم نبض الحلم الأول، #تعالوا لتتعلّموا من علي أحمد ناصر عنتر أن الثورة ليست رصاصةً في صدر عدو، بل ضميرٌ لا يساوم، وأن الوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالإخلاص والإتقان والصدق في العمل.
علّمنا عنتر أن الشجاعة ليست في حمل السلاح، بل في قول الحقيقة، وأن الوحدة لا تُصنع بقرارات، بل بالثقة والعدالة والإيمان بالمصير الواحد.
كان يؤمن أن من يزرع الخير في الناس يحمي الوطن أكثر ممن يرفع رايته في الميدان، وأن الحرية لا تكتمل إلا حين يكون الإنسان حرًّا من الخوف، من الجهل، ومن الحاجة.
يا شباب اليمن…
احملوا من سيرته نقاء القلب لا قسوة التجربة، وتذكّروا أن المجد لا يصنعه الانتصار في المعارك، بل القدرة على البقاء أوفياء في زمن الخيانة.
اعرفوا أن الوطن لا يحتاج إلى من يتغنّى به، بل إلى من يخدمه بضميرٍ نقيٍّ ويدٍ نظيفة.
لقد رحل علي عنتر، لكن روحه ما زالت تقول لكم:
“ كونوا صادقين مع أنفسكم، تكن أوطانكم بخير .”
ففي كل جيل يولد “عنتر” جديد… ما دام هناك من يؤمن أن اليمن يستحق أن يُحَب، لا أن يُستغل أو يُرتهن أو يُحتل.
الخلاصة:
الرجل الذي … سبق زمنه
ربما لو مدّ الله في عمر علي أحمد ناصر عنتر قليلًا بعد تلك العاصفة التي ابتلعت أحلام الجنوب اليمني، لكان لليمن وجهٌ آخر، أكثر عدلًا، وأقرب إلى ما كان يحلم به من وطنٍ يتسع للجميع.
فقد كان الرجل يمتلك رؤيةً وحدويةً عادلة، وشجاعةً سياسيةً نادرة، وبصيرةً أخلاقيةً سبقت زمنها، جعلت منه حالةً فريدة في تاريخ اليمن الحديث.
لم يكن يسعى إلى مجدٍ شخصي أو سلطةٍ زائلة، بل إلى حلمٍ جماعيٍّ بوطنٍ كريمٍ لكل أبنائه.
وحين رحل، لم يترك وراءه قصورًا ولا ثروات، بل ترك فكرةً خالدة — والفكرة، حين تكون صادقة ونظيفة، تعيش أطول من أصحابها، وتتحوّل إلى نبراسٍ يهتدي به اللاحقون.
إن إنصاف علي أحمد ناصر عنتر لا يكون بتقديسه، بل بفهمه؛ بفهم مشروعه الوطني الذي آمن بأن الكرامة هي جوهر الإنسان، وأن الوحدة ليست غلبة طرفٍ على آخر، بل شراكة عادلة بين أبناء وطنٍ واحد يجمعهم المصير والمستقبل.
كان يؤمن أن العدالة والمساواة هما الركيزتان اللتان تُبنى عليهما أي وحدةٍ حقيقية، وأن الطريق إلى وطنٍ قويٍّ ومتصالح يبدأ من احترام التنوع، والإيمان بحق الجميع في المشاركة والكرامة.
هكذا أراد عنتر لليمن أن يكون:
بيتًا واحدًا يتسع للجميع، تتوازن فيه الحقوق والواجبات، وتتوحّد فيه الإرادة لا تُفرَض.
لقد كان علي أحمد ناصر عنتر شهيد الشعب وروح اليمن معًا — الرجل الذي آمن بالوطن الواحد المتصالح مع ذاته، قبل أن تقتله الصراعات.
عاش من أجل الناس لا من أجل ذاته، وظلّ وفيًّا للفكرة التي آمن بها:
أن اليمن لا يقوم إلا على العدالة والوحدة والكرامة.
ومضى عنتر تاركًا وراءه درسًا خالدًا في النزاهة والوفاء والإيمان بأن الثورة لا تنتهي ما دام في القلب حلمٌ بالحرية، وفي الإنسان قدرة على الحلم بوطنٍ أجمل.