بحث

أكتوبر اليمن … الثورة التي كتبت الحرية بالدم والضوء

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

أكتوبر اليمن … 
الثورة التي كتبت الحرية بالدم والضوء

 حين نهضت الجبال وردّدت المدن النداء

في فجر الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م، كانت جبال ردفان تُنجب نورًا لا يُشبه الفجر العادي، بل فجرًا وُلد من رحم الغضب، ومن صبر قرنٍ كامل من القهر والاحتلال.

هناك، من بين صخور جنوب الوطن الصلبة، ارتفع صوت راجح بن غالب لبوزة ليعلن أن اليمن لا يُستعمر مرتين،
وأن الكرامة إن سقطت مرةً بالسلاح، فلن تُستعاد إلا بالسلاح نفسه — لكن بسلاحٍ مطهَّر بالإيمان والوعي.

لم تكن رصاصة ردفان مجرد بداية معركة، بل كانت إشارة البدء لصحوة وطنية كبرى، انبعاث وعيٍ جمعيٍّ قرر أن يمحو من ذاكرته الخضوع، وأن يستعيد سيادته بالحبر والدم معًا.

تزلزلت الجبال من صدى النداء، واستيقظت المدن على وقع الإرادة، فمن عدن إلى لحج، ومن أبين إلى حضرموت، كان جنوب اليمن وشرقه كله يكتب سطره الأول في كتاب الحرية العربية الحديثة.

منذ تلك اللحظة، لم تعد عدن مجرد ميناء على خريطة المستعمرات، بل صارت بوابة النور إلى العالم العربي، ومحرابًا وطنيًا تتجلّى فيه كل معاني الكرامة والسيادة.
لقد خرجت الثورة من رحم الجبال، لكن صداها اخترق كل جدارٍ من جدران الصمت، ليقول للعالم:
إن الشعوب الصغيرة قد تصنع تاريخًا كبيرًا،
وإن الجبال حين تنطق، تُسقط عروش الإمبراطوريات.

الجذور: من رماد الاحتلال تولد الفكرة

منذ أن دنّست أقدام الاستعمار البريطاني تراب عدن عام 1839م، بدأ زمنٌ ثقيل من الهيمنة أراد أن يُطفئ في الإنسان اليمني شعلة الإرادة.

مدّت الإمبراطورية خيوطها في الجغرافيا والسياسة، فقسّمت الأرض إلى سلطناتٍ وإماراتٍ وولاءاتٍ متناحرة،
زرعت بين القبائل جدران الريبة، وبين المدن أسلاك الانقسام، ظنًّا منها أن شعبًا مقسّمًا يسهل إخضاعه.

لكنها لم تدرك أن بين صخور ردفان الصامتة، وفي أزقّة كريتر المفعمة بالحياة، وفي موانئ الشيخ عثمان التي تتنفس العروبة، كان يتكوّن شيء أعظم من الغضب:
وعيٌ جديد، يتشكّل كالموج، يكتسب ملامحه من المعاناة ويتهيّأ للانفجار في وجه الطغيان.

في المقاهي الصغيرة، حيث تُتداول الصحف سرًّا،
وفي مدارس عدن التي علّمت أجيالًا أن القلم لا يقل شأنًا عن البندقية، وفي نقابات العمّال التي تحوّلت إلى خلايا وعيٍ ومطالبةٍ بالحقوق، بدأت الكلمة تُصبح رصاصة في وعي الأمة، والفكر يتحوّل إلى موقفٍ وطنيٍّ واعٍ .

وهكذا، في المدينة التي أرادها البريطانيون “لؤلؤة التاج الإمبراطوري”، بدأت اللؤلؤة تتفتّح لتكشف جوهرها العربي الصلب، وبدأ الشعب اليمني يكتب تاريخه بالحبر أولًا، ثم يستكمله بالدم حين حان أوان الحقيقة.

الانفجار: راجح لبوزة… الرصاصة الأولى في صدر الإمبراطورية

في صباح الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م، نهضت جبال ردفان على صوت التاريخ وهو يُعيد تعريف ذاته.

من بين صخورها القاسية خرج رجلٌ من يافع، يحمل على كتفيه إرث الوطن اليعربي ووهج الثورة القادمة من شمال الوطن — إنه راجح بن غالب لبوزة، الفارس الذي عاد من جبهات ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وفي صدره إيمانٌ لا يتجزأ بأن اليمن وطنٌ واحد لا تنقسم حريته كما لا تنقسم روحه.

عاد لبوزة من الشمال وقد تمرّس في معاني التنظيم والانضباط، وفي يده بندقية وفي قلبه فكرة:
أن الاستعمار لا يُفاوض بالعواطف، بل يُهزم بالإرادة.
وحين التقت ردفان بقدَره، لم يكن في معركته سوى عددٍ من الرجال المؤمنين بأن الله والوطن يقفان في صفّهم.

في تلك اللحظة، اشتبكت الإرادة بالحديد، وسقط راجح لبوزة شهيدًا في اليوم الأول من المواجهة،
لكن موته لم يكن نهاية المعركة — بل بدايتها الكبرى.
لقد دوّى صدى رصاصه في الوديان كأن الجبال تردّد النداء:

“آن لجنوب الوطن أن يتحرّر .”

تحوّل دمه إلى شرارةٍ وطنية أضاءت كل القرى والمدن،
من ردفان إلى الضالع، ومن لحج إلى عدن،
فانفجرت الثورة كبركانٍ عظيمٍ لم يعد في وسع الإمبراطورية أن تُخمده.

ومنذ تلك اللحظة، لم تعد أكتوبر مجرّد تاريخٍ في الروزنامة، بل فكرة ولادةٍ جديدة لشعبٍ قرر أن يكتب تاريخه بيده، وأن يجعل من لبوزة ليس شهيدًا فحسب، بل رمزًا للوعي الجمعي الذي رفض أن يُستَعمَر بعد اليوم.

النساء في الصفوف الأولى: حين صار الحلم مؤنثًا

لم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر مجرّد انتفاضةٍ بالسلاح، بل كانت نهضة وعيٍ شامل — ثورة حملت البندقية بيدٍ، والمبدأ باليد الأخرى.

وفي مقدمة هذا الموكب التاريخي، كانت المرأة اليمنية تتقدّم بخطىٍ لا تعرف التردد، تمحو بصوتها صمت قرونٍ طويلة.

في شوارع عدن ووديان ردفان، كانت النساء يهتفن للحرية، يضمدن جراح المقاتلين، ويكتبن بيانات الثورة بالحبر الذي خُلط بالدم.

لم يكن حضورهن ديكورًا وطنيًا، بل روح الثورة ذاتها — من رضية إحسان الله إلى لطيفة علي شودري وخدوج الأصنج وفضيلة سالم ورقية محمد ناصر ام صلاح لقمان وصافيناز خليفة، وغيرهن من رائدات النور اللواتي فهمن أن تحرير الوطن لا يكتمل إلا بتحرير المرأة، وأن الاستقلال السياسي بلا استقلال فكري يظلّ نصف حرية.

حوّلت تلك المناضلات الجمعيات النسوية إلى مدارس وعيٍ وتمرد، تلتقي فيها النساء لتناقش، وتخطط، وتواجه.

صارت البيانات تُطبع سرًا، والمظاهرات تُدار من البيوت التي تحوّلت إلى مقارّ سرية للمقاومة.
وفي لحظةٍ نادرة من تاريخ الشعوب، اختلطت دموع الأمهات بدماء الأبناء في مشهدٍ واحدٍ من البطولة والوعي، كأن اليمن كلّه صار أمًّا تنجب الحرية.

كانت المرأة اليمنية في ثورة أكتوبر ضمير الثورة وصورتها الأكثر إنسانية — تثبت أن الحلم حين يكون مؤنثًا، فإنه يصبح أصدق، وأن صوتها كان النداء الأول للفجر الأخير للاستعمار

من الجبال إلى المدينة: الجبهة القومية وصوت الكفاح

حين اشتعلت الشرارة الأولى في جبال ردفان، لم يكن أحدٌ يتخيل أن الصدى سيصل إلى كل زاويةٍ من الجنوب.
لكن النار الصغيرة سرعان ما أصبحت لهيبًا وطنيًا يلتهم جدران المستحيل.

توحّد صوت الفدائيين تحت راية الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل (NLF) — راية جمعت البنادق والضمائر، والحلم بالوطن الكبير الذي لا مكان فيه لظلّ المستعمر.

من ردفان إلى الضالع، ومن أبين إلى حضرموت، كانت الثورة تمتد كأغنيةٍ من نارٍ وإرادة، تحاصر المحتل لا بعدد الرصاص، بل بصلابة الإيمان.

في كل بيتٍ عدنيٍّ كان هناك قلبٌ يخفق للحرية:
امرأة تخبئ مناضلًا خلف ستارة الليل، شابٌّ يكتب منشورًا على ورقٍ مرتجف، وعجوزٌ تهمس للسماء أن تحفظ أبناء الوطن وهم يعبرون نحو الفجر.

تحوّلت عدن إلى مدينةٍ لا تنام إلا على حلم الاستقلال، ولا تستيقظ إلا على نداء الكفاح.
كان المستعمر البريطاني يمتلك السلاح، لكنه فقد السيطرة على ما هو أخطر: 
وعي الناس.
فحين يتوحد الوعي، يسقط الاحتلال مهما بلغ جبروته، وتتحول البنادق إلى لغة الروح التي لا تُقهر.

وهكذا، من بين الجبال الشمّاء إلى شوارع المدينة المضيئة، تكاملت الثورة — سلاحٌ يقاتل، وكلمةٌ توجّه، وضميرٌ يحلم.
وفي هذا التلاحم، وُلد الوطن من جديد، أكثر وعيًا، وأكثر عنادًا، وأكثر قدرة على أن يقول:
هنا اليمن… وهذه حريتنا.


الانتصار: يومٌ كتبته الشمس في دفاتر الأبد

وفي الثلاثين من نوفمبر عام 1967م، انحنت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس أمام إرادة شعبٍ لم تعرف شمسُه الغروب.
غادرت آخر جندية بريطانية أرض عدن، وارتفع علم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية خفّاقًا فوق المدينة التي كانت يومًا تُسمّى “لؤلؤة التاج البريطاني”،
لتصبح منذ تلك اللحظة جوهرة الحرية العربية، وأول دولةٍ في القرن العشرين تنتزع استقلالها بالكفاح المسلح لا بالمساومة.

لم يكن ذلك اليوم يوم نصرٍ عسكري فحسب، بل كان ولادة وعيٍ جديد لأمةٍ كتبت قدرها بيدها.
في الميدان، كانت البنادق تصمت، لكن الهتاف لا يزال يدوّي؛
وفي كل بيتٍ من ردفان إلى كريتر، كانت الأمهات يزرعن الزغاريد مكان الرصاص.
ذلك النصر لم يُصنع ببندقيةٍ واحدة، بل بكل يدٍ كتبت، وكل قلبٍ آمن، وكل روحٍ آثرت أن تموت واقفةً على أن تعيش راكعة.

أثبت اليمنيون للعالم أن الإمبراطوريات تزول، لكن الشعوب لا تموت، وأن الحرية حين تُسقى بالدم، تُثمر وطنًا لا يُباع، ولا يُرتهن، ولا يُقهر.

ومنذ ذلك اليوم، صار 30 نوفمبر أكثر من ذكرى استقلال؛ صار ميثاقًا خالدًا بين الأجيال بأن لا عودة للظلام، وأن الوطن — مهما تكالبت عليه المحن — سيظل يُنجب من رماده فجرًا جديدًا.

الرسالة الباقية: أكتوبر ليس ذكرى… بل منهج ووصيّة

إن ثورة الرابع عشر من أكتوبر ليست فصلًا في كتاب التاريخ، بل نصًّا مفتوحًا في ضمير الأمة، يتجدد مع كل جيلٍ يرفض الهزيمة، ويؤمن أن الحرية لا تُورَّث بل تُنتَزع.

ليست مناسبةً للاحتفال، بل منهجًا للوعي والعمل، ودعوةً دائمة لمراجعة الذات، وتذكيرًا بأن الأوطان لا تُبنى بالشعارات، بل بالمسؤولية والوعي والإرادة المشتركة.

تقول أكتوبر لأبنائها:
إن الوطن لا يحيا بالانقسام، ولا يصمد بالارتهان،
وأن السيادة لا تُمنح، بل تُصان بالعرق والفكر والدم.

تقول: 
إن التحرر لا يكتمل بخروج المستعمر من الأرض، بل بخروج الوصاية من العقول،
وأن الاستقلال الحقيقي هو أن يحكمنا وعينا لا أهواؤنا، ووحدتنا لا انقساماتنا.

كل جيلٍ لا يصنع ثورته يعيش عالةً على ثورة غيره،
وكل أمةٍ تنسى جذوتها، يُعيدها التاريخ إلى الهامش.

فلتكن أكتوبر في وعينا لا مجرد يومٍ في التقويم، بل بوصلةً للمستقبل، ووصيّةً للأبناء بأن الوطن لا يُحمى إلا حين نحرس فكرته كما نحرس ترابه.

الخلاصة: 
في حضرة أكتوبر، يسكت التاريخ احترامًا

سلامٌ على أكتوبر المجيد، على كل من سار في دربه،
سلامٌ على راجح لبوزة الذي كتب بدمه الافتتاحية،
وعلى رضية إحسان الله التي نقشَت بالكلمة خريطة الوعي، وعلى آلاف الشهداء الذين علّمونا أن الحرية ليست حدثًا عابرًا، بل مسؤولية يومية وضمير يقظ وموقف لا يساوم.

ستبقى ثورة 14 أكتوبر في ذاكرة اليمنيين أعظم ما أنجبته الإرادة الحرة، ستظل جبال ردفان ووديان عدن شاهدةً على أن في هذا الوطن رجالاً ونساءً لا ينامون حين تُهان الكرامة، ولا يصمتون حين يُستباح الوطن.

وستظل هذه الثورة رسالةً حية للأجيال القادمة:
أن الوطن يُحفظ بالوعي قبل السلاح، وبالمبادرة قبل الصمت، وبالإرادة قبل أي قوة خارجية.

رسالة إلى شباب اليمن … أبناء الفجر الذي لم ينطفئ

يا شباب اليمن، يا أبناء سبتمبر وأكتوبر، يا حراس الحلم الذي لم يخمد رغم العواصف…
أنتم الامتداد الطبيعي لأولئك الذين صعدوا الجبال حفاةً ليصنعوا من صخورها وطنًا.
أنتم الورثة الشرعيون لدماء الثلايا و راجح لبوزة، ولصوت رضية إحسان الله وعزيزة أبولحوم، ولأنين آلاف الأبطال الذين كتبوا بدمهم أن الحرية لا تُورَّث، بل تُحمى كل يوم.

لا تجعلوا أكتوبر مجرد ذكرى في تقويمٍ باهت؛ اجعلوه أسلوب حياة، وميثاق وعي، ومنهج بناء.
فالوطن اليوم لا يحتاج إلى البنادق بقدر ما يحتاج إلى العقول المستنيرة والضمائر الشجاعة، ولا يحتاج إلى الصراخ بقدر ما يحتاج إلى العمل، والتماسك، والإيمان بأن اليمن أكبر من الجميع.

احذروا أن يتحول الاختلاف إلى خصومة، أو التنوع إلى انقسام.
إن الأوطان تُهزم حين يختلف أبناؤها على أحلامهم، وتنتصر حين يتوحدون حول فكرة الحرية.

كونوا كما أراد لكم التاريخ أن تكونوا: 
حراس السيادة، ورسل الوعي، وبناة المستقبل.

احملوا راية أكتوبر لا كشعارٍ يتلاشى في الاحتفالات، بل كعهدٍ يتجدد في كل جيل، فالوطن لا يحيا إلا بكم، ولا ينهض إلا بوعيكم، ولا يستمر إلا بإرادتكم.

يا شبابَ اليمنِ الشرفاء،
أنتم نبضُ هذا الوطن، وسنامهُ، وسياجهُ الأخير.
 أنتم من تُعوَّل عليهم الأجيال، لا الساسة الذين باعوا ضمائرهم، ولا أولئك الذين ارتهنوا للغريب.

لا تسمحوا لأحدٍ أن يسرق منكم حلمكم بوطنٍ حرٍّ كريم، ولا تجعلوا من دمائكم وقوداً لصراعاتٍ عبثية تُدار من وراء البحار. 
أنتم أبناء الأرض الطيبة، أبناء التاريخ العريق، من سلالة من حملوا رايات الحضارة والكرامة منذ سبأ وحضرموت وحِمير والطود والتهايم وأعرابها .

ارفعوا وعيكم، فالوطن لا يُحمى بالاندفاع، بل بالبصيرة والاتحاد، ولا تُبنى الدول على الكراهية، بل على العدل والإخاء. قاوموا الجهل بالعلم، والفساد بالنزاهة، واليأس بالأمل.

كونوا صفاً واحداً أمام كل يدٍ تعبث ببلادكم، وكونوا السدّ المنيع في وجه الطائفية والمناطقية والتبعية.

اليمن ينتظركم… لا لينقذه أحد، بل لتنهضوا به أنتم، أبناءه الأحرار.

فلتكن صرختكم من القلب:
“لن نُباع، لن نُقسم، لن نُستعبد… اليمن لنا، وسنحميه بوعينا ووحدتنا .”

آخر الأخبار