شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد
رضية إحسان الله… أنثى بحجم وطن، وصوت بحجم ثورة
مهندسة الوعي النسوي في معمار الثورة اليمنية
في ذاكرة عدن، حين تتقاطع رائحة البحر مع عبق التاريخ، تنهض صورة امرأةٍ استثنائية، لا تُذكر إلا ويُضاء معها زمنٌ بأكمله.
لم تكن رضية إحسان الله ظلًّا في هوامش الثورة، بل كانت أحد أعمدتها الفكرية والإنسانية، وعقلها الذي رسم ملامح الوعي الأنثوي في وجه الاستعمار والجهل معًا.
من مدينة كريتر العتيقة، ولدت عام 1933م، لا لتعيش حياةً عادية، بل لتكون أيقونة في معمار النهضة اليمنية الحديثة، امرأة حملت على كتفيها عبء السؤال، وسلاح الكلمة، وراية الوطن.
كانت رضية تُدرك أن الثورة لا تبدأ من البندقية، بل من تحرير الوعي، وأن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق بجلاء المستعمر وحده، بل بتحرر الإنسان من الخوف والجهل والوصاية.
لذا، حملت مشروعها كمهندسةٍ لبناء جديد — بناء الوعي النسوي، والفكر التنويري، والمجتمع المدني، في زمنٍ كانت فيه المرأة تُحاصَر في الظل، ويُمنع عنها الضوء.
ومع ذلك، اخترقت رضية جدار العتمة، وسارت بثقةٍ بين ركام القيود لتصوغ خطابًا وطنيًا تحرريًا يتجاوز حدود الجندر إلى أفق الوطن.
كانت عدن يومها مدينةً تنبض تحت الاحتلال البريطاني، لكنها أيضًا تشتعل تحت جلدها بحركةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ غير مسبوقة.
وفي تلك اللحظة التاريخية التي كان فيها الرجال يخوضون معاركهم في الجبهات، كانت رضية وإلى جوارها نخبة من نساء عدن يخضن معركة الوعي، معركة الكلمة، ومعركة الموقف.
لم تكن مناضلة بالمعنى التقليدي فحسب، بل كانت مُعمّرة للثورة من داخلها، تُشيّد الوعي لبنةً فوق لبنة، وتبني في عقول النساء مفهومًا جديدًا للمواطنة والكرامة والحرية.
آمنت رضية أن المرأة ليست تابعًا في المشروع الوطني، بل شريكة في التأسيس والتضحية والبناء.
وحين كانت معظم النساء محصورات في دائرة الصمت، خرجت هي لتُحدث تمردًا فكريًا أنيقًا ومخيفًا في آنٍ واحد — كتبت، ناقشت، وواجهت المؤسسة الدينية والاجتماعية والسياسية، مدفوعة بإيمانٍ عميق بأن النضال لا يُقاس بالصوت العالي، بل بقدرة الفكر على التغيير.
هكذا تحوّلت رضية إحسان الله إلى هندسة فكرية في بنية الثورة، صوتٍ يوازن بين المبدأ والسياسة، بين التنوير والمقاومة، بين الحبر والنار.
جعلت من القلم رصاصة، ومن الكلمة ميدانًا، ومن العمل الجمعوي غطاءً لوعيٍ وطنيٍ متقدمٍ سبق عصره بعقود.
وبين كل سطرٍ كتبته، كانت تُعيد تعريف معنى أن تكون المرأة يمنية… وأن تكون الثورة فكرًا قبل أن تكون نزالًا.
بداية الحكاية… من قلمٍ يكتب الثورة
في زمنٍ كانت فيه الكلمة جريمةً، والرأي جسرًا إلى العزلة، خرجت رضية إحسان الله من بين جدران عدن القديمة تحمل قلمًا لا يشبه الأقلام.
لم يكن حبره يُسطر أخبارًا أو خواطر عابرة، بل يُفجّر وعيًا ويهزّ مسلماتٍ نامت طويلاً على وسادة الخضوع.
كتبت لتوقظ أمة، لا لتُرضي سلطانًا.
واجهت مجتمعًا يهاب صوت المرأة، فكانت صوتًا يقارع الخوف بالحكمة، والجهل بالمنطق، والجمود بالشجاعة الفكرية.
آمنت رضية أن أولى معارك التحرر لا تُخاض في ساحات القتال، بل في عقول البنات والنساء، وأن المدرسة هي ساحة الثورة الأولى.
كانت تقول — بفكرها ومقالها — إن من يُغلق باب العلم في وجه فتاةٍ إنما يُغلق نافذة الوطن على نوره، وإن الحرية لا تكتمل إلا حين تتعلم المرأة كيف تفكر وتختار وتقرر.
في تلك المرحلة، كانت عدن تتقاطع فيها رياح التنوير العربي مع ظلال الاستعمار البريطاني، وكانت الصحافة منبر الوعي ومختبر الأفكار.
وفي خضمّ هذا الحراك، بزغ اسم رضية إحسان الله في صحف عدن كقلمٍ جريءٍ متفرّد.
كتبت عن المرأة، والتعليم، والحرية، والسفور، والعقل، والنهضة، فكانت مقالاتها بمثابة بيانات فكرية مبكرة تُنادي بحق المرأة في المشاركة لا كترفٍ اجتماعي، بل كركيزةٍ في مشروع الوطن.
لم تكن تُجيد المواربة، ولم تُجمل الحقيقة بعباراتٍ رمادية، بل واجهت المؤسسة الدينية والاجتماعية بثقة العارف، لا بتهور المتمرد.
وحين اشتد الجدل حول قضية الحجاب والسفور، لم تهاجم الدين كما فعل بعض الليبراليين، بل أعادت قراءته بعينٍ تنويريةٍ عميقة؛ فاستندت إلى فتوى الشيخ البيحاني — إمام مسجد العسقلاني — لتؤكد أن الإيمان ليس خصمًا للحرية، بل حارسها الحقيقي، وأن الحجاب لا يجب أن يكون قيدًا يعزل المرأة عن وطنها، بل خيارًا لا يمنعها من أن تكون فاعلة في بناء مجتمعها ومصيرها.
بهذا القلم، كانت رضية تُهندس ثورةً فكرية قبل أن تُكتب أول رصاصةٍ في تاريخ الجنوب اليمني الحديث.
كانت تُدرك أن الأمم لا تتحرر من مستعمريها قبل أن تتحرر من أفكارها القديمة، وأن الاستقلال السياسي لا يكتمل إلا إذا نهض معه وعيٌ جديد يُعيد تعريف الوطن والإنسان معًا.
المناضلة التي جعلت …الجمعيات منابر ثورة
حين كانت بريطانيا تُشيّد “نادي سيدات عدن” عام 1943م لتلميع وجهها الاستعماري وتجميل صورتها أمام العالم، دخلته رضية إحسان الله لا كضيفةٍ في صالون النخبة، بل كشرارةٍ في معبد الزيف.
كانت تدرك أن الاستعمار لا يكتفي باحتلال الأرض، بل يسعى لاحتلال الوعي، وأن ترويض المرأة جزءٌ من معركة السيطرة على المجتمع.
لكنها لم تنتظر طويلًا — تمرّدت مع زميلاتها على الإدارة البريطانية للنادي، وفتحت أول شقٍ في جدار الهيمنة الثقافية، لتنتقل بعدها إلى جمعية المرأة العدنية عام 1956م، وتبدأ معها فصلًا جديدًا من المقاومة المدنية النسوية.
ومع نضوج الوعي واتساع التجربة، أدركت رضية أن العمل الخيري ليس سوى ستارٍ شفيفٍ يُغطي الخضوع، وأن الوقت قد حان لتأسيس مشروعٍ وطنيٍّ بوجهٍ نسويٍّ صريح.
فأسست في العام 1961م جمعية المرأة العربية، لتصبح هذه الجمعية أول منبرٍ نسائيٍّ يُعلن صراحةً أن النضال ليس حكرًا على الرجال، وأن الوطن لا يُبنى بنصفه الصامت.
كانت الجمعية بالنسبة لها خليّة فكرٍ ووعيٍ ومقاومة؛
منها انطلقت الندوات، ومنها وُزّعت المنشورات، ومنها خرجت المظاهرات التي دوّت في شوارع عدن كأغنية حريةٍ لا تنطفئ.
لم تكن شعارات رضية زينةً للخطابات، بل عهودًا مكتوبة بضميرٍ ثوريٍّ واعٍ.
رفعت شعارًا صار علامةً فارقة في التاريخ النسوي العربي والوطني:
“ وطنٌ واحد، ومسؤولية مشتركة .”
بهذا الشعار، تجاوزت زمنها، وسبقت أحزابًا وتنظيمات سياسية كثيرة في إعلان مبدأ المساواة في الواجب الوطني لا في الحقوق فحسب.
كانت تقول إن الوطن ليس ساحةَ تنافسٍ بين الرجال والنساء، بل جبهةً واحدة ضد الجهل والظلم والاستبداد، وإن وعي المرأة هو النصف الخفي من معادلة الحرية.
لقد جعلت رضية إحسان الله من الجمعيات النسائية مختبرًا للثورة، ومشغلًا للوعي، ومنبرًا سياسيًا متنكرًا في ثوب العمل الاجتماعي.
وحين كانت السلطات البريطانية تظنها تجمع النساء لأعمالٍ خيرية، كانت في الحقيقة تُحضّر لثورةٍ تُعيد تعريف المرأة والوطن معًا.
الزحف المقدّس… حين صرن النساء صفًّا من لهب
في الرابع والعشرين من سبتمبر 1962م، كانت عدن على موعدٍ مع الفجر — فجرٍ خرج من رحم القهر، واندفع من بين أزقة كريتر كصرخة وطنٍ يُعيد تعريف الشجاعة.
من فندق إحسان، ذاك المبنى الذي حمل اسم عائلتها، انطلقت سبعة أفواجٍ من المتظاهرين رفضًا لمشروع الاتحاد الفيدرالي الاستعماري الذي أرادت بريطانيا أن تُقسّم به الجسد اليمني وتشتّت ذاكرته.
وفي مقدّمة الزحف، سارت رضية إحسان الله — أنثى تتقدّ النار في عينيها، تقود فوج النساء كأنها تمشي على حدود الأسطورة.
لم تكن تمشي إلى المجهول، بل إلى الخلود.
هتفنَ “الحرية لعدن”، فارتجّت الحجارة تحت أقدامهن، وتحوّل شارع الملكة أروى إلى نهرٍ من لهبٍ نسويٍّ متقدٍ بالإيمان بالوطن.
انهالت العصي البريطانية على الأجساد النحيلة، وسقطت النساء لا خوفًا، بل اعتزازًا — كنَّ يسقطن وهنَّ يرفعن وجوههن نحو السماء كمن يوقّعن على وثيقة ميلاد وطنٍ جديد.
كان ذلك اليوم يوم الزحف المقدّس؛ اليوم الذي خرجت فيه النساء من ظلّ التاريخ إلى صدره، لا كمساندات، بل كمُحرّكاتٍ للمصير.
تمنّت رضية في حياتها أن يُسمّى ذلك الشارع يومًا “شارع الزحف المقدّس”، لا لتُخلّد اسمها، بل لتُخلّد أصوات النساء اللواتي قدّمنَ أجسادهنَّ جسورًا لعبور الوطن نحو الحرية.
كان ذلك الزحف ثورةً داخل الثورة — لحظةً انتقلت فيها المرأة من مقاعد المتفرجين إلى صفوف النار الأولى، ومن الحديث عن الحرية إلى صناعتها بدمها وكرامتها.
ذلك اليوم لم يكن مجرد احتجاج…
كان ميلادًا جديدًا لليمنية الحرّة، التي لا تكتفي بالانتظار، بل تصنع الفجر بيديها.
اعتصام في وجه الحديد… حين انتصرت الإرادة على السجن
في ديسمبر 1963م، اهتزّت عدن على وقع قنبلة مطارها، واشتعلت المدينة بالغضب والقلق.
لم تنتظر رضية إحسان الله طويلًا لتتحرك.
كانت تعرف أن الاحتلال البريطاني سيستغل الحادثة لقمع الحركة الوطنية، فقرّرت أن تُحوّل الألم إلى فعل، وأن تجعل من الصمت مقاومةً صاخبة.
دعت إلى اجتماعٍ عاجل في فندق إحسان المملوك لوالدها، وجمعت حولها نساءً من مختلف الطبقات — أمهات المعتقلين، وزوجاتهم، وناشطاتٍ من جمعيتها (جمعية المرأة العربية).
هناك، وُلدت فكرةٌ لم تكن عدن قد شهدت مثلها من قبل:
اعتصام نسوي مفتوح حتى الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
لكن الاحتلال لم يحتمل ذلك النبض الأنثوي الجريء، فاقتحم الجنود الاجتماع، واعتقلوا رضية وصافيناز خليفة.
ورغم السجن، لم تنكسر إرادتها، بل اتخذت من الزنزانة منبرًا جديدًا للنضال.
أعلنت من خلف القضبان إضرابًا عن الطعام استمر سبعة عشر يومًا، حتى سقطت مغشيًا عليها ونُقلت إلى المستشفى، فاضطر الاحتلال إلى الإفراج عنها.
خرجت رضية من السجن أكثر صلابةً مما دخلته، لتقود الاعتصام من جديد — هذه المرة أمام مقر حكومة الاتحاد.
زحفت النساء معها، واقتحمن مبنى البرلمان قبل وصول الموظفين، ورفعن أصواتهن بالمطالبة بالإفراج عن المعتقلين.
كان المشهد أسطوريًا:
نساءٌ يعتصمن أربعة أيام متواصلة، بلا طعام ولا ماء، تحت حصارٍ بريطانيٍّ قاسٍ، فيما ترفض رضية التراجع أو التوسّل.
صمدن حتى اضطر وزير الداخلية السلطان صالح بن حسين العوذلي ووزير الخارجية محمد فريد العولقي إلى توقيع اتفاقٍ بالإفراج عن جميع المعتقلين ليلة عيد الفطر المبارك.
تلك الليلة لم تكن مجرد انتصارٍ سياسي؛
كانت تتويجًا لإرادة امرأة جعلت من الضعف سلاحًا، ومن السجن منارةً، ومن الاعتصام قصيدة حريةٍ تُتلى على الأجيال.
لقد أثبتت رضية إحسان الله أن الثورة ليست دومًا بندقية في يد رجل، بل يمكن أن تكون صوتًا نسويًا يتحدّى الحديد والجوع والقيود، وأن النضال الحقّ لا يُقاس بعدد الطلقات، بل بقدر الإيمان الذي يسكن الصدر حين تخونك القوة.
رضية بعد الاستقلال… المثقفة التي كتبت اليمن بالحبر والعقل
حين أشرقت شمس الاستقلال على عدن، لم تتوارَ رضية إحسان الله إلى الظل كما يفعل المنتصرون عادة، بل ظلّت كما كانت — صوتًا ناقدًا، وضميرًا يقظًا، وعقلًا لا يساوم على الحقيقة.
فقد آمنت أن الثورة لا تنتهي بتحرير الأرض، بل تبدأ بتحرير الفكر من القيود التي تشلّ العقل وتجمّد الوعي.
كانت تعرف أن الاستقلال السياسي لا يكتمل إلا إذا تلاه استقلال ثقافي وفكري، وأن الأوطان التي لا تحرس أفكارها تُهزم حتى وهي ترفع علمها.
ولأنها كانت ابنة الكلمة بقدر ما كانت ابنة الميدان، عادت إلى القلم لتواصل نضالها من موقعٍ جديد — موقع الفكر والمعرفة.
تحوّلت من قائدةٍ تهتف في الشارع إلى مفكّرةٍ تكتب في العزلة، لكن نبرتها الثورية لم تخفت، بل ازدادت عمقًا وجرأة.
تفرّغت للدراسة والتأليف، فأنجزت عددًا من المؤلفات الفكرية والتاريخية التي وثّقت من خلالها تجربة اليمن الحديث، وأسهمت في رسم ملامح الوعي الوطني من منظورٍ نقديٍ عميق.
من أبرز أعمالها:
«وثائق حرب اليمن 1994»، «عدن الخالدة: ميناء عالمي حر»، «مولد الحركة النسائية»، «أبي قزمان إمام الزجالين»، و«العقل يحاكم خالقه»، إلى جانب دراساتٍ متنوّعة تناولت قضايا الفكر الديني والاجتماعي والسياسي.
كانت تلك المؤلفات امتدادًا طبيعيًا لنضالها الميداني؛ ثورةً من نوعٍ آخر، بالكلمة لا بالهتاف، وبالعقل لا بالسلاح، وبالوعي لا بالعنف.
لم تكن رضية تبحث عن مجدٍ شخصي، بل عن المعنى الكبير للوجود الوطني والإنساني.
كانت ترى أن المرأة التي تُمسك بالقلم لا تقل شجاعةً عن التي تُمسك بالراية، وأن بناء الفكر هو الطريق الأطول — لكنه الأصدق — لبناء الأوطان.
وحين غادرت الحياة في 13 يناير 2020م بصمتٍ يليق بالعظماء، لم تمت فكرةٌ من أفكارها، بل اتسعت لتصبح جزءًا من ضمير اليمن.
تركت إرثًا لا يُقاس بعدد الكتب ولا بعدد المواقف، بل بحجم الوعي الذي زرعته في وجدان أجيالٍ من اليمنيين واليمنيات.
لقد كانت رضية إحسان الله امرأة سبقت زمانها، وجعلت من الفكر ميدانًا للنضال، ومن الوعي سلاحًا للتحرير، ومن الأنوثة عنوانًا للشجاعة والفكر معًا.
هي اليوم ليست مجرد اسمٍ في سجلّ الثورة اليمنية، بل ركنٌ من معمار الوعي الوطني، وجسرٌ يصل بين الماضي والمستقبل.
صوتٌ يذكّرنا أن بناء الوطن يبدأ من تحرير العقول قبل تحرير الحقول، وأن الحبر — حين يُكتب بصدق وإيمان — قد يخلّد أكثر مما تفعل البنادق، ويُشعل ثوراتٍ لا تُطفئها الأزمنة.
رحيلها… وخلود الرسالة
في 13 يناير 2020م، بالعاصمة اليمنية صنعاء أسدلت رضية إحسان الله ستار الحياة كما يليق بالكبار — في صمتٍ نبيلٍ يشبه وقار الجبال، وفي كرامةٍ تليق بامرأةٍ كانت وطنًا بحجم أنثى، وأنثى بحجم وطن.
رحلت عن عمرٍ ناهز السابعة والثمانين، بعدما أمضت عمرها في كتابة المعنى النبيل للحرية، لا بالحبر وحده، بل بالفعل والموقف والكلمة الشجاعة.
رحلت كما عاشت:
بهدوءٍ يُخفي وراءه صخب التاريخ، وبابتسامةٍ تعرف أن الرسالة لم تمت، لأنها تحوّلت إلى وعيٍ يسري في عروق اليمن.
لم تكن رحلتها فناءً، بل عبورًا من جسدٍ إلى فكرة، ومن سيرةٍ إلى رسالة، ومن امرأةٍ إلى ذاكرة وطنيةٍ خالدة.
كانت “المرأة الوطن” بحق — المرأة التي أدركت أن النضال ليس معركة بين الرجل والمرأة، بل صراع بين الحرية والجهل، بين الوعي والوصاية، بين وطنٍ يريد أن ينهض وآخر يُسحب إلى الوراء.
علّمتنا أن الكلمة التي تُكتب بضميرٍ حرّ، يمكن أن تكون رصاصةً في وجه الاستعمار، وجسرًا نحو نهضةٍ لا تنكسر.
لم تترك خلفها سوى ما يتركه العظماء: أثرًا يتردّد صداه في الوعي الجمعي للأمة، وسيرةً تُضيء الأجيال كما تُضيء النجومُ طريقَ المسافرين في الليالي الطويلة.
رحلت رضية، لكنّها بقيت تتكلّم فينا — في ضمير امرأةٍ تؤمن أن التعليم حرية، وفي عقل شابٍ يدرك أن الكلمة مقاومة، وفي كل من لا يزال يرفض أن يكون الوطن فكرةً مؤجّلة.
لقد غادرت الجسد، لكنّها أقامت في روح اليمن إلى الأبد.
رسالة من رضية إلى جيل اليوم… لا تتركوا الوعي يُحتل مرتين
يا شباب اليمن… يا حاملي الوطن في ضمائركم وعقولكم، استمعوا إلى صدى صوت رضية إحسان الله الذي لم يمت، بل صار نبراسًا لكل من يريد أن يكتب حريته وحياة وطنه:
تعلموا أن الثورة لا تبدأ بالبنادق وحدها، ولا تتحقق الحرية بلا وعي.
تعلموا من رضية أن الكلمة يمكن أن تهزم الحديد، وأن الإرادة تصنع من السجون منابر، ومن الزحف احتجاجًا، ومن الفكر مسارًا للتحرير.
احذروا أن يُحتل وعيكم، وأن يُقسم الأجنبي وطنكم، وأن يُشتّت شعوركم بالمسؤولية.
كونوا حراسًا للعقل، وأمناء على التاريخ، ومبادرين في العمل الوطني، كما كانت رضية.
ولا تنسوا أن الحرية الحقيقية تبدأ من داخلكم، قبل أن تتحقق على الأرض، وأن كل فكرة تُسكت أو كل طموح يُقمع هي فرصة ضائعة للوطن قبل أن تكون فرصة ضائعة لكم.
لتكن رسالتها لكم شعلةً لا تنطفئ:
 • الوعي أول سلاح،
 • الوحدة أول خط دفاع،
 • والعمل الوطني أول خطوات التغيير.
عليكم أن تسيروا على الدرب الذي شقته رضية، من الميدان إلى القلم، ومن الفكر إلى الفعل، ومن ضمير المرأة إلى ضمير الأمة.
فكما أضاءت ضوءها في زمنٍ قاتم، يمكن لشباب اليوم أن يضيئوا فجر اليمن الموحّد، الحرّ، والعظيم.
رضية إحسان الله لم تغادرنا… بل أهدتنا الطريق، والنور، والإرادة.
كونوا أنتم من يكمل المسيرة، ويكتب الحرية بقلوبكم قبل أن يكتبها التاريخ
الخلاصة :
لم تكن رضية إحسان الله امرأة عادية؛ كانت مؤسسة فكرية، وثورة تمشي على قدمين.
تقدّمت الصفوف في زمنٍ كان يُخشى فيه من ظلّ الأنثى، وأثبتت أن الحرية لا تُستأذن، وأن التاريخ لا يرحم المتفرجين.
سلامٌ على رضية، التي حوّلت من قلمها بندقيةً، ومن فكرها وطناً، ومن حياتها نشيدٍ لا ينتهي.
لقد علمتنا أن النضال الحقيقي يبدأ من الوعي والفكر والموقف الصادق، وأن كل جيلٍ يحمل مسؤولية استمرار الطريق، كما حملته رضية بصدق وإيمان.
رحلت جسدًا، لكنها بقيت روحًا تتقدّ في وجدان اليمنيين، ونبراسًا لكل من يريد أن يجعل الحرية جزءًا من حياته، والوطن جزءًا من وعيه.
رضية إحسان الله ليست مجرد ذكرى؛ إنها رسالة حية، دعوة مستمرة لكل الشباب كي يكتبوا مستقبل وطنهم بوعي، وشجاعة، وإرادة لا تقهر.