شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
راجح لبوزة…
بطل سبتمبر وأكتوبر
الرجل الذي أشعل فجر الوطن ونام في قلب الجبل
في ذاكرة اليمن العميقة، لا يولد الأبطال على هوامش الصدف، بل تصوغهم الضرورات التاريخية حين تبلغ الأمم لحظة الوعي القصوى بين أن تكون أو لا تكون.
هناك، في خاصرة الجبال التي لا تنحني، حين يتصلب الحجر ويضيق الصمت بوطنٍ يئنّ من وطأة الغياب، تلد الأرض رجالها الأشدّاء كأنهم من صلبها.
ومن بين تلك الصخور التي تحمل عبق الثورة ووجع التاريخ، خرج راجح بن غالب لبوزة — الرجل الذي لم يأتِ من رفاه المدن، بل من صلابة ردفان ويافع، حاملاً في ملامحه مزيج الأرض والنار، وفي صوته صدى المدى البعيد الذي يرفض الانكسار.
لم يكن لبوزة مجرّد مقاتل يطلق رصاصة، بل حالة وعيٍ ورفضٍ وكرامةٍ وطنية تبلورت في جسد رجلٍ قرّر أن يواجه إمبراطوريةً كانت يومها لا تغيب عنها الشمس. حين خيّره المستعمر بين الخضوع وبين الحياة، اختار أن يفتح لجنوب الوطن نافذةً على الفجر بدمه، لا أن يورّث أبناءه ليل الاستسلام الطويل.
لقد كان يدرك أن التاريخ لا يُكتَب بالحبر، بل بأوردة الذين صدقوا الوعد ومضوا، وأن الثورة لا تحتاج لجيوشٍ جرّارة بقدر ما تحتاج إلى رجلٍ واحدٍ يؤمن أن الحرية أثمن من الحياة نفسها.
من هناك، من ردفان التي كانت تغفو على حوافّ الشمس، دوّى صوته الأول — رصاصةً في صدر الصمت، وإعلانًا عن ميلاد اليمن الجديد.
لقد كان راجح لبوزة أكثر من مناضلٍ ميداني؛ كان استراتيجيةً في هيئة إنسان، ومشروع وعيٍ وطنيٍّ سابق لزمنه، جمع بين الرؤية والبسالة، بين الحلم والدم، بين البندقية التي تحرر الجسد، والفكرة التي تحرر الوعي.
من رحم الجبل …ووعي القبيلة
وُلد راجح بن غالب لبوزة في يافع من محافظة لحج، في بيئةٍ لا تعرف الانحناء، بين جبالٍ تصحو على الكرامة وتنام على الكبرياء، وبين رجالٍ يتوارثون الفروسية كما يتوارثون الاسم والهوية.
هناك، في القرى المعلقة بين السحاب، حيث تُصاغ القيم في أتون القسوة، تربّى لبوزة على أن الرجولة موقفٌ قبل أن تكون مظهرًا، وأن الكرامة لا تُطلب، بل تُصان بالدمّ متى لزم الأمر.
كان مجتمعه بسيطًا في معيشته، لكنه غنيٌّ بمعاني العزة والأنفة والشرف الجمعي، حيث يُقاس الرجال بما يحمون لا بما يملكون، وبما يقدّمون لا بما يجمعون.
في تلك البيئة التي لا تسمح للضعف أن يستقرّ، تخلّق وعي لبوزة الأول — وعيٌ جبليٌّ نقيّ، لكنه نافذٌ كحدّ السيف؛ وعيٌ أدرك مبكرًا أن الهيمنة لا تسلب الأرض فقط، بل تسلب الروح أيضًا.
لم يكن لبوزة من أصحاب الأقلام أو خرّيجي المدارس النظامية، لكنه كان من تلاميذ الفطرة الوطنية، أولئك الذين تعلّموا السياسة من شواهد الطبيعة ومن صمت الجبال، فصاروا أكثر بصيرةً من كثيرٍ من المنظّرين.
بحدسه الصافي، أدرك أن الاستعمار ليس احتلالًا لجغرافيا، بل مصادرةٌ للوعي، وأن الحرية لا تكتمل إلا إذا تحرّر الإنسان من داخله قبل أن يتحرّر وطنه من الخارج.
لقد نما وعيه مثل شجرةٍ ضاربة الجذور في صخر يافعية، تتغذّى من تاريخ القبيلة، وتطلّ على المستقبل بعين الثائر.
ومن تلك المعادلة النادرة بين الفطرة والإدراك، بين البساطة والنباهة، تبلور في راجح لبوزة مشروع إنسانٍ سيغدو لاحقًا أيقونةً وطنية وشرارةً استراتيجية لميلاد ثورةٍ غيّرت وجه الجنوب واليمن بأسره
إلى الشمال… حين توحّدت المعركة
حين دوّى فجر 26 سبتمبر 1962م في شمال اليمن، معلنًا سقوط عرش الإمامة وقيام فجر الجمهورية، كان راجح لبوزة أحد الذين أحسّوا بنبض الثورة في أعماقهم قبل أن يصل صداها إلى آذانهم.
أدرك أن ما يجري في صنعاء ليس شأنًا محليًا، بل هو ارتجاجٌ في قلب الأمة اليمنية الواحدة.
لم يرَ في الشمال والجنوب سوى جسدٍ واحدٍ قُطِّعت أطرافه بخطوطٍ رسمها المستعمر، لكنها لم تستطع أن تمحو وشائج الدم والانتماء والقدر المشترك.
وحين نادى النداء، لبّى.
حمل بندقيته كما يحمل الشاعر قلمه، وسار ومعه كوكبة من أبناء يافع الأحرار إلى جبال شمال الوطن، يقاتلون في صفوف الثوار الجمهوريين دفاعًا عن الحق في الحياة، وعن وعد الوطن بالتحرر والعدالة.
لم يكن ذهابه مغامرةً، بل رؤيةً مبكرة لوحدة المصير اليمني، وإيمانًا بأن الحرية لا تُجزّأ، وأن من يُقاتل من أجل صنعاء، إنما يُقاتل من أجل عدن، وردفان، ولحج، وكل ذرة ترابٍ في هذا الوطن الكبير.
في جبال الشمال، تعلّم لبوزة الوجه المنظّم للثورة؛ رأى كيف تتحوّل الفكرة إلى خطة، وكيف يُدار الحلم بالعقل كما يُدار بالقلب.
هناك، في ساحات القتال ضد بقايا الإمامة، أدرك أن الثورة ليست فورة غضبٍ عاطفية، بل مسار وطني طويل يحتاج إلى وعيٍ وصبرٍ وتكتيكٍ وتضحيةٍ لا تعرف الملل.
لقد خرج من تلك التجربة أكثر نضجًا، وأكثر فهمًا لضرورة أن يكون للثائر عقلٌ يخطط كما أن له بندقيةً تقاتل.
كانت تلك الرحلة إلى الشمال مختبر الوعي الأول الذي صاغ شخصية لبوزة النضالية.
هناك اكتشف أن الدم اليمني، حين يسيل في معركةٍ عادلة، يوحّد الجغرافيا التي فرّقها الاستعمار، ويصنع وطنًا لا يُقاس بالخرائط، بل بالإرادة.
ولذلك، حين عاد إلى الجنوب بعد عامٍ واحد، لم يعد الرجل ذاته الذي غادر؛ عاد قائدًا مُدركًا لرسالته، وثائرًا يحمل في ملامحه خلاص وطنٍ كاملٍ ينتظر الشرارة.
العودة إلى الجنوب… وبداية الفجر
عاد راجح بن غالب لبوزة إلى الجنوب في خريف عام 1963م، بعد أن أروى روحه بملح الثورة شمالًا وارتوى من دروسها الأولى. عاد وهو يحمل على كتفيه بندقيته القديمة، وفي قلبه يقينٌ جديد بأن ساعة الجنوب قد دقّت، وأن الاستقلال لا يُستورد من الخارج، بل يُولد من رحم الأرض التي تشتهيه.
عاد ومعه رفاقه من أبناء يافع وردفان الذين تشاركوا معه الخبز والرصاص والحلم، وكلّهم مدركون أن الطريق إلى الحرية لا يُعبّد بالتصريحات، بل بالعزيمة والإيمان والسلاح حين يضيق الأفق.
كانت المنطقة يومها تحت وطأة الاستعمار البريطاني، تغفو على أصوات المصفّحات وتستيقظ على أصداء المعسكرات، فيما كانت القبائل تعيش بين الخضوع القسري والتململ الصامت.
وحين أوقفه الضابط البريطاني عند تخوم ردفان، مطالبًا إياه بتسليم سلاحه، أدرك لبوزة أن اللحظة التاريخية التي انتظرها قد جاءت.
نظر إلى سلاحه كما ينظر الإنسان إلى قطعةٍ من ذاته، ثم قال كلمته التي خُلِّدت في الذاكرة الوطنية:
“السلاح لا يُسلَّم، لأنه شرف الرجل، والحر لا يُجرَّد من شرفه .”
كانت تلك الجملة أكثر من رفضٍ شخصي، كانت إعلانًا رمزيًا لبداية الثورة الجنوبية، وقطعًا نهائيًا مع زمن الخضوع.
دوّى الرصاص الأول في جبال ردفان، فارتجّت الأرض تحت أقدام المستعمرين، واشتعلت الشعاب والوديان بنداءات الكرامة.
لم يكن في تلك اللحظة جيشٌ منظم ولا خطةٌ مدروسة، بل إرادة رجلٍ واحدٍ قرّر أن يفتح فم الجبل على فجرٍ جديد.
وفي ظهيرة ذلك اليوم — 14 أكتوبر 1963م — سقط راجح لبوزة شهيدًا في أول مواجهة مع القوات البريطانية، لكنه لم يسقط وحيدًا؛ فقد سقطت معه آخر أوراق الصمت، وولدت من دمه أول صفحةٍ من تاريخ الحرية الوطنية.
لم يكن استشهاده نهاية معركة، بل بداية مسار.
لقد تحوّل جسده الذي احتضنه تراب ردفان إلى منارةٍ للوعي الوطني، وأصبح دمه خريطة الطريق التي سيتبعها المناضلون حتى نيل الاستقلال بعد أربع سنوات.
ومنذ تلك اللحظة، لم تعد ردفان مجرد جغرافيا؛ صارت أيقونة الثورة، وصار لبوزة ضميرها واسمها الأول، الرجل الذي أشعل الشرارة ومضى، تاركًا في أعماق الجبل صدىً لا يزال يتردّد حتى اليوم:
“إن مات الجسد، يبقى الموقف حيًا، يورّث الأرض معناها .”
ردفان… ذاكرة الحجر والنار
منذ أن دوّى الرصاص الأول في جبال ردفان يوم الرابع عشر من أكتوبر، لم تعد تلك الجبال كتلة صخرية صامتة، بل تحوّلت إلى كائنٍ حيٍّ يتنفّس الثورة وينبض بالكرامة.
لقد استيقظ الحجر من سباته الطويل، وتحوّلت الوديان التي كانت مأوى للرعاة إلى ساحاتٍ للمجد، وصارت الصخور الصلبة مقاعد لتاريخٍ جديد يُكتَب بالدم والعزم، لا بالحبر والبيانات.
في تلك الجبال، امتزجت الأرض بالسماء، فصارت ردفان عنوانًا للصلابة ومرجعًا للانتماء، منها انطلقت شرارة الجنوب، وإليها كانت تتجه أنظار الأحرار في عدن ولحج وأبين والضالع.
لم تكن ردفان تملك مصانع سلاحٍ ولا جيوشًا جرّارة، لكنها امتلكت ما هو أندر:
الإيمان العميق بأن الكرامة لا تُقاس بالقوة المادية، بل بصلابة الإرادة.
وحين سقط لبوزة في أول معركةٍ، لم تسقط الروح التي أطلقها، بل تناسلت كالنار في الهشيم، تتقد في صدور المقاتلين الذين حملوا اسمه شعارًا ورايته وعدًا.
كانت ردفان أشبه بـ أمّ الثورة، حملت جنينها في رحم الصخر، وولدت حريةً من بين ألسنة النار.
ومن يومها، غدت رمزًا لا يقبل الاختزال؛ مدرسة في الكبرياء، ومحرابًا للوطنية، وميدانًا لا يعرف الهزيمة.
هناك تشرّب الجيل الجديد معنى الفداء، وفهم أن الاستقلال ليس وثيقة توقّع، بل طريقٌ يُعبّد بالدماء.
لم تكن المعارك التي تلت استشهاد لبوزة مجرد ردود فعلٍ غاضبة، بل تحوّلت إلى حركةٍ ثوريةٍ منظّمة أخذت شكلها في جبهة التحرير والجبهة القومية لاحقًا.
كان صدى ردفان هو الصوت الذي وحّد الفصائل المتناثرة تحت رايةٍ واحدة، ومنح الجنوب هويته الثورية الجامعة.
حتى أصبحت ردفان في الوجدان اليمني والعربي أشبه بالرمز المقدّس الذي يُذكر مقرونًا بكل معنى للبطولة والنهوض الوطني.
ولأن الجبال لا تنسى من مرّ من فوقها بالدم، ظلّ اسم راجح لبوزة يتردّد في كل شعابها، يرافقه صوت الريح كأنها تروي للأجيال قصة الرجل الذي أيقظ الصخر بالنار، وأشعل من بين أضلعه فجرًا لوطنٍ بأكمله.
ردفان لم تعد بعد لبوزة كما كانت قبله؛
لقد تغيّر معناها ومصيرها وصورتها في الوعي الجمعي.
فهي لم تعد موطنًا جغرافيًا فحسب، بل ذاكرة الأمة ومحراب العزة، الجبل الذي صعد إليه رجلٌ واحد فأنزل معه شعبًا بأكمله إلى ساحة الحرية.
الإرث … والرمزية
لم يكن راجح بن غالب لبوزة في يومٍ من الأيام قائدًا يبحث عن سلطة، ولا ثائرًا يسعى إلى مجدٍ شخصي. لقد كان — ببساطةٍ مهيبة — ضمير وطنٍ بأكمله تجسّد في رجلٍ واحد.
وحين ترجل عن صهوة الحياة في لحظة البداية، لم يترك خلفه فراغًا، بل ملأ الوجدان الجمعي بحضوره الأبدي، وكأن موته كان ولادةً لوطنٍ جديد.
تحوّل لبوزة بعد استشهاده إلى رمزٍ تتجاوز سيرته حدود الجغرافيا والزمان.
لم يعد مجرّد اسمٍ في سجلّ المناضلين، بل أصبح فكرةً حيّة تعيش في ذاكرة اليمن، فكرةً تُذكّر كل جيلٍ بأن الثورة ليست حدثًا يُحتفى به، بل سلوكًا يُورَّث ومسؤوليةً تُحمل.
كان إرثه المعنوي أعمق من أي وثيقةٍ أو بيان. ترك خلفه مدرسةً في القيادة الفطرية الشريفة، حيث يولد القائد من رحم المعاناة لا من رحم الامتياز، وحيث يُقاس الزعيم بما يقدّمه لا بما يُقال عنه.
لقد منح الأجيال اللاحقة نموذجًا نادرًا للبطولة الصامتة — تلك البطولة التي لا تصرخ ولا تتباهى، بل تعمل في صمتٍ وتترك صداها يتكفّل بصناعة الخلود.
صار اسم لبوزة يتردّد في الأغاني الشعبية والأهازيج الوطنية، لا كماضٍ يُستعاد، بل كحاضرٍ يُستمر.
وحين تحتفل اليمن سنويًا بذكرى ثورة 14 أكتوبر، فإنها لا تحتفل بحدثٍ تاريخي فحسب، بل تجدد عهد الوفاء لرجلٍ اختصر معنى التضحية في موقفٍ واحدٍ وطلقةٍ واحدة.
أما في الوعي الجمعي، فقد غدا لبوزة الرمز الجامع لكل ما هو نبيلٌ في الإنسان اليمني:
الكبرياء، الصبر، الصدق، والإصرار على الحق.
إنه البطل الذي أعاد تعريف معنى الشجاعة؛ فالشجاعة في سيرته لم تكن حبًّا للموت، بل حفاظًا على معنى الحياة.
وإرثه في ضمير الأمة لم يكن صدى لمعركةٍ قديمة، بل وقودًا لمعركة الوعي المستمرة ضد الاستبداد والنسيان والتجزئة.
لقد علّمنا لبوزة أن الأبطال لا يُخلّدهم الحجر ولا النصب التذكارية، بل يُخلّدهم استمرار الفكرة التي ماتوا من أجلها.
ولهذا، لا تزال سيرته تمضي في الزمان كما تمضي النار في الحطب اليابس، تُذكّر كل جيلٍ أن الأوطان لا تُبنى بالخطابات، بل بالمواقف التي تُكتب بدمٍ صادقٍ وإيمانٍ لا يُكسر.
ولأن الرموز الكبرى لا تنتمي إلى الماضي وحده، يبقى راجح لبوزة قيمةً راهنةً ومشروعًا أخلاقيًا للجيل الجديد، يذكّرهم أن الحرية ليست ترفًا سياسيًا، بل قدرٌ يستحق أن يُصان بكل ما في الإنسان من إيمانٍ وكرامة.
البعد الاستراتيجي …للرؤية
في قراءةٍ متأنّيةٍ لتجربة راجح بن غالب لبوزة، يتضح أنه لم يكن مجرّد شرارةٍ أشعلت ثورةً محلية، بل رؤيةٌ استباقيةٌ نادرة أدركت مبكرًا قوانين التغيير في الزمن العربي المضطرب آنذاك.
لقد فهم، بحدسه الفطري ووعيه العملي، أن التحرر لا يتحقق بالرفض فقط، بل ببناء معادلة جديدة تُربك موازين المستعمر وتعيد صياغة مفهوم القوة.
حين رفع بندقيته في ردفان، لم يكن يواجه الإمبراطورية البريطانية وحدها، بل كان يواجه منطق الاستسلام الذي أراد الاستعمار ترسيخه في الوعي الوطني.
كان يدرك أن المعركة الكبرى ليست بين جنودٍ وسلاح، بل بين إرادتين:
إرادةٍ تُريد أن تبقى حرة، وأخرى تُريد أن تبقى مسيطرة.
ومن هذه الزاوية، تبرز عبقرية لبوزة — إذ نقل النضال من مستوى المقاومة الغريزية إلى مستوى الفعل الاستراتيجي الواعي، الذي يربط بين الجغرافيا والتاريخ والهوية والمصير المشترك.
لقد أطلق رصاصته الأولى في لحظةٍ دقيقة من التاريخ، لحظةٍ كانت فيها المنطقة العربية تعيد اكتشاف ذاتها، من الجزائر إلى عدن، ومن القاهرة إلى صنعاء.
وفي قلب هذا السياق، أدرك لبوزة أن ثورته ليست فقط تحررًا من استعمارٍ بريطاني، بل حلقة في مشروع نهضوي عربي واسع يربط بين النضال الوطني والتحرر الإقليمي، وبين الكفاح المسلح وكرامة الإنسان.
كان واعيًا بأن الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بخروج المستعمر فحسب، بل بقدرة الأمة على إدارة نفسها بوعيٍ وكرامةٍ ومسؤولية.
ومن هنا، جاءت رمزيته أبعد من البندقية؛ لقد مثّل التحول من المقاومة إلى الوعي السياسي، ومن الغضب إلى الفعل المنظم، ومن الفكرة المحلية إلى الرؤية القومية الأشمل.
استراتيجيًا، أرسى لبوزة حجر الأساس لفكرة أن الثورة لا تبدأ بالعدد بل بالإيمان، ولا تنتصر بالمدافع بل بالوضوح الأخلاقي والصلابة النفسية.
كانت معركته الأولى بمثابة بيانٍ تأسيسيٍ مكتوبٍ بالدم، حدّد مسار النضال الجنوبي والشرقي وألهم حركات التحرر لاحقًا في كل ربوع اليمن.
لقد قدّم نموذجًا نادرًا للقائد الذي يدرك الأبعاد الجيوسياسية من موقع الفطرة لا من مقاعد التنظير، فكانت حركته نواة لتحوّلٍ وطني استراتيجي غيّر شكل العلاقة بين الشعب والمستعمر، وفتح الطريق أمام الاستقلال الكامل عام 1967م.
إن قراءة لبوزة اليوم ليست استدعاءً لذكرى بطولية فحسب، بل استحضارٌ لفلسفة التحرر ذاتها:
أن الحرية لا تُصان إلا حين تُحمى بالوعي، وأن الأمم التي تنسى شهداءها تفقد بوصلتها قبل أن تفقد أرضها.
ومن هذا المنطلق، يظل لبوزة في العقل اليمني رمزًا استراتيجيًا للكرامة المستمرة، ودليلًا على أن الفعل الثوري يمكن أن يولد من رجلٍ واحدٍ، لكنه حين يكون صادقًا، يُعيد رسم خريطة وطنٍ بأكمله.
حين نصل إلى اسم راجح بن غالب لبوزة، نشعر أننا لا نتحدث عن رجلٍ مرَّ في التاريخ، بل عن تجسيدٍ ناطقٍ لفكرة الخلود.
لقد عاش كما تعيش الشُهب، قصيرة المسافة، عظيمة الضوء؛ احترق ليضيء، ومضى ليبقى.
فهو لم يكن حدثًا عابرًا في سجل الثورة، بل اللحظة التي تحوّل فيها الألم إلى وعي، والسكوت إلى رصاص، واليأس إلى يقينٍ بالحرية.
في كل زمنٍ يحتاج الوطن فيه إلى من يذكّره بمعناه، يعود لبوزة من بين ثنايا الذاكرة، لا بوجهه ولا بصورته، بل بموقفه الأول — ذلك الرفض الذي فتح الباب على فجرٍ جديد.
كان يدرك، دون أن يقرأ في كتب الفلسفة أو السياسة، أن الشعوب لا تتحرر إلا حين تُدرك معنى أن تكون حرّة لا من الخارج، بل من الداخل أولًا.
ولهذا، حين أطلق رصاصته في ردفان، لم يكن يعلن حربًا، بل يعلن بداية الوعي الوطني، الوعي الذي ما زال يضيء الدروب رغم كل ما مرّ بها من عواصف.
لقد علّمنا لبوزة أن الثورة ليست موسمًا ينتهي، ولا نشيدًا يُغنّى كل عام، بل ضميرٌ جماعي يجب أن يُورَّث كما تُورَّث الأرض.
وأن الوطن لا يكتمل إلا حين يحمل في ذاكرته رجالًا ضحّوا بالزمن من أجل أن يمنحونا الديمومة.
إنه البطل الذي جعل من جسده جسرًا بين زمنين: زمن العبودية وزمن الكرامة، وبين واقعٍ مريرٍ وأفقٍ مفتوحٍ على الحلم.
وإذا كان التاريخ يُكتب عادةً بأيدي المنتصرين، فإن لبوزة كتب تاريخه بدمه وحده، ثم تركه أمانةً في وعي الأمة.
ولذا، فإن ذكراه ليست مجرد صفحةٍ تُقرأ في احتفالٍ وطني، بل ميثاقٌ أخلاقيٌ وسياسيٌ دائم، يذكّر اليمنيين أن الحرية لا تُستجدى، بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُورّث إلا بالدم النبيل.
إنصاف راجح لبوزة اليوم لا يكون بالتماثيل أو الشعارات، بل بأن نُبقي مشروعه حيًا في ضميرنا الجمعي — مشروع الإنسان الذي اختار أن يموت واقفًا كي يعلّم وطنه كيف يعيش مرفوع الرأس.
وهكذا، يبقى راجح لبوزة — رجل الجبل، ومفجّر الفجر، وضمير الثورة — شاهدًا خالدًا على أن من يولد من رحم الصخر، لا يموت، بل يتحوّل إلى جبلٍ آخر في ذاكرة الأمة.
إنه البداية التي لا تنتهي، والنهاية التي لا تُطفئ معناها…
فكلما ذُكر اسمه، انتفضت ردفان من سباتها، واستيقظ الوطن على ملامح فجرٍ جديد.
رسالة للشباب — لنكن حراس الوطن
يا شباب اليمن،
أنتم نبض هذه الأرض وضميرها اليقظ.
أنتم الأمل القادر على أن يعيد بناء الوطن من بين رماد المحن، وأنتم اليد التي تقف في وجه كل مخطّط يريد تمزيق وحدتنا وسرقة هويتنا وتراثنا ومستقبلنا.
اطردوا التواجد العسكري الأجنبي من بلادكم
تعلموا من رجالٍ كتبوا التاريخ بدمائهم—كراجح لبوزة وغيرهم من الشهداء—أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بالإرادة، وأن حفظ الوطن يبدأ بالوعي والمبادرة والشجاعة المدنية.
التشتّت والارتهان لأجنداتٍ خارجية، والانقساماتُ التي تفتّت اللحمة الوطنية، أعداء لا تقل خطورتهم عن أي قوة غازية.
كل لحظة صمت أو تردد تُستغل لصالح مخططات التفكيك.
شعاركم:
«الوعي سلاحنا — الوحدة درعنا — العمل مسؤوليتنا»
شاركوا، تواصلوا، نظّموا أنفسكم في ميادين الحياة: دراستكم، عملكم، أحياؤكم ومدنكم.
كونوا حاضرين بالعقل والضمير والعمل، لا غائبين بين الشاشات أو متفرِّجين.
تذكّروا: مؤامرات التقسيم أدوات حقيقية. والشباب هم الحصن الأول أمامها — بالوعي أولًا، وبالمبادرة ثانيًا، وبالتضحية ثالثًا عندما يفرض الواجب. لن نترك أرضنا تُقسّم أو تُباع أو تُهجّر بهدوء.
انهضوا الآن — قبل فوات الأوان — واجعلوا من وطنكم قوةً متّحدة لا تُقهَر، وفكرةً حيّة لا تُقسّم، ومستقبلاً يُحفظ بالأمل والعمل والكرامة.