شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد
تعز على مفترق الطريق: 
السيادة.. القانون.. وكرامة المواطن
بين صمتٍ أنهك الكلام ووجعٍ يبحث عن وطن آمن
تعز — المدينة التي علّمت اليمنيين معنى الصمود، تقف اليوم على مفترق طريق بين أمل الدولة وهاوية الفوضى.
لم تعد تعز مجرّد مدينة تتألم من أزمة إدارية أو اشتباكٍ أمني؛ بل تحوّلت إلى مرآةٍ كاشفة لجوهر المأساة اليمنية: دولة غابت، وسلطة تاهت، ومواطن ظلّ صوته بين أزيز الرصاص وصمت النخبة.
يقول أهل تعز: «تعب الكلام من الكلام» — عبارة تختصر وجع السنين، وتعري العجز السياسي في أبسط تجلياته.
فمن ذا الذي يسمع أنين مدينةٍ أُنهكت من الداخل؟
الناس هناك لم يعودوا يطلبون الكثير: لا مشاريع كبرى، ولا وعود انتخابية، بل شيئًا واحدًا فقط — الكرامة في ظل قانونٍ عادل.
أزمة تتجاوز …الجغرافيا
ما يحدث في تعز ليس شأنًا محليًا محدودًا، بل اختبار حقيقي لقدرة اليمنيين على إعادة تعريف معنى الدولة.
كل الأطراف، دون استثناء، أسهمت في إنهاك المدينة — مرة باسم الدين، ومرة باسم الثورة، ومرة باسم الشرعية.
لكن الحقيقة البسيطة التي لا تحتمل التأويل هي أن السلاح لا يصنع دولة، وأن القوة بلا شرعية تُنجب الفوضى.
تعز اليوم ليست بحاجة إلى بيانات سياسية، بل إلى تسوية تاريخية تبدأ من المدينة وتنتهي إلى الوطن كله.
سلام تعز هو حجر الزاوية في أي سلام يمني شامل، لأن المدينة كانت — وستبقى — قلب اليمن الثقافي، ورمز وعيه المدني.
طريق الخلاص: ثلاثية الدولة الغائبة
لكي تستعيد تعز نفسها، لا بد من العودة إلى معادلة بسيطة وواضحة، لا لبس فيها:
1- سيادة القانون:
أن يُطبّق على الجميع بلا استثناء، وأن تُدار المدينة من قبل مؤسسات شرعية مدنية، لا منطق القوة أو الولاء.
2- نزع السلاح من المدن:
فلا أمن بلا احتكار الدولة للعنف، ولا كرامة لمواطن يخاف من جاره أكثر مما يخاف من الغريب.
3- تمكين القضاء والنيابات والمحليات:
كي تمارس مهامها باستقلال وشفافية، بعيدًا عن تدخلات القوى السياسية والعسكرية، وتعود العدالة لتكون درع المواطن لا سيف السلطة.
بين الألم … والأمل
تعز لا تبحث عن انتصار عسكري، بل عن سلامٍ كرامته العدل.
هي مدينة دفعت من دمها ما يكفي لأن تُعامل كمشروع دولة، لا كساحة لتصفية حسابات القوى.
في أزقتها تختبئ ذاكرة الثورة الأولى، وفي وجوه أبنائها يتوارث الجيل معنى الشموخ حتى في أقصى حالات الانكسار.
إن أي مبادرة وطنية لإنهاء الصراع في اليمن يجب أن تبدأ من هنا، من تعز التي تشبه الوطن كله:
مدينة الجبال الصلبة، التي لا تنكسر، لكنها تتألم في صمت.
الاستراتيجية … الغائبة
الرهان اليوم ليس على السلاح ولا على الممول الخارجي، بل على وعي الناس.
من دون مصالحة يمنية خالصة، سيبقى النزيف مفتوحًا، مهما تغيّرت التحالفات وتبدلت الشعارات.
لذلك، فإن الحل الاستراتيجي الحقيقي يبدأ بخطوة واحدة شجاعة:
أن يتوقف التحالف وإيران عن التدخل في الشأن اليمني، وأن يُشجع اليمنيون على الجلوس إلى طاولة يمنية خالصة، تنبثق منها رؤية سلام عادل وشامل ومستدام.
الخلاصة:
تعز… مرآة الدولة ومختبر الوجع اليمني
في كل مرةٍ تنكسر فيها المدن، تبقى تعز استثناءً،
فهي لا تموت رغم الجراح، ولا تصمت رغم الخذلان.
مدينةٌ تتنفس الأمل في وطنٍ أنهكته التباسات السلطة وتواطؤ السلاح.
اليوم، تقف تعز على مفترق التاريخ؛
بين أن تكون شاهدة على نهاية الدولة، أو بداية وعيٍ جديد يعيد للدولة معناها وللقانون روحه.
هنا، حيث امتزج الحلم بالدم، تتردد الكلمات كأنها صلاة وطنية:
“كفى صراعًا على الرماد، وأعيدوا للإنسان مكانته .”
لقد علّمتنا تعز أن الألم لا يكفي لصناعة الوعي،
بل إن الوعي هو الذي يُحوّل الألم إلى مشروع خلاص.
ومتى ما استعاد اليمنيون قدرتهم على الإنصات إلى أنين هذه المدينة، سيكتشفون أن الطريق إلى السلام لا يبدأ من المفاوضات، بل من الاعتراف بالإنسان كمركز لكل معنى.
تعز اليوم تختبرنا جميعًا:
هل نحن شعبٌ يريد وطنًا، أم جماعاتٌ اسلام سياسي تتقاسم الجغرافيا؟
هل نملك شجاعة أن نقول إن الدولة لا تُبنى بالولاءات الضيقة،
وأن القانون هو السلاح الوحيد الذي لا يُسفك به الدم؟
هي لا تطلب الشفقة، بل تطلب عدالةً تليق بتاريخها.
هي لا تناشد، بل تُذكّر:
أن كرامة المواطن ليست منحة من حاكم، بل حقٌّ يكفله العقل قبل النص.
ربما تكون تعز آخر المدن التي تتحدث بصدق،
لكنها ستكون — بلا جدال — أول المدن التي تنهض باسم الجمهورية القادمة،
حين يقرر اليمنيون أن يصغوا إلى صوتها العميق:
صوت الدولة، وصوت الكرامة، وصوت الحياة.