بحث

عبدالله السلال … قائد الثورة حين يولد الرجال في لحظة التاريخ (4)

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفــى بن خالد

عبدالله السلال …
قائد الثورة
حين يولد الرجال في لحظة التاريخ (4)

ثورة 1948… الدرس الأول في ثمن الحلم

حين عاد عبدالله السلال من بغداد، كان يعود بعقلٍ عسكري حديث وروحٍ تتّقد بإيمانٍ جديد.
 لم يكن يحمل رتبة فحسب، بل مشروعًا فكريًا مكتمل الملامح: 
أن اليمن يستحق أن يكون وطنًا لا ضيعة، دولةً لا عزلة، وأن الجيش يجب أن يكون حارسَ الشعب لا سوطًا في يد الحاكم.

غير أن اليمن التي عاد إليها لم تكن مهيّأة لسماع تلك اللغة بعد.
كانت البلاد غارقة في ليلٍ طويل من الحكم الإمامي، حيث يُختزل الوطن في شخص الإمام، وتُختصر الدولة في القصر، ويُختزل الشعب في الطاعة الصامتة. 
كانت الحياة أشبه بدائرة مغلقة: 
جهلٌ يعيد إنتاج الخضوع، وخضوعٌ يحرس الجهل، وإمامٌ يراقب من عليائه كل محاولةٍ للتنفس خارج سلطته.

في هذا المشهد القاتم، بدت فكرة الثورة ضربًا من الحلم المستحيل، ومع ذلك وُجدت في أعماق بعض الرجال — وفي مقدمتهم السلال — شرارةٌ ترفض الانطفاء. كانوا يؤمنون أن النور، مهما بدا بعيدًا، لا بد أن يشقّ طريقه ذات يوم عبر جدران الظلام.

ثورة 1948 كانت التجربة الأولى لذلك الحلم — أول محاولة لكسر السكون الإمامي — لكنها كانت أيضًا الدرس القاسي الذي علم السلال ومن معه أن الطريق إلى الفجر الجمهوري لن يُعبد بالشعارات، بل بالتضحية والتنظيم والإيمان العميق بعدالة الفكرة.

البدايات… حين همس الضباط بالحرية

في دهاليز الجيش النظامي بصنعاء، حيث كان الصمت يُفرض كقانون والخوف كعقيدة، بدأت الهمسات الأولى تشقُّ طريقها بين الضباط الشباب. 
كانت أحاديث خافتة تُتلى على استحياء عن إصلاحٍ سياسيٍّ ودولةٍ حديثةٍ تحكمها القوانين لا الأوامر، وعن وطنٍ لا يكون فيه الإمام قدرًا أبديًا، بل حاكمًا يخضع للدستور والمساءلة.

التقت في تلك الأجواء المغلقة إرادات من عوالم مختلفة: 
ضباطٌ تخرّجوا من مدارس الأيتام وتذوّقوا معنى الانضباط والكرامة، ومثقفون تشربوا روح الإصلاح من الفكر النهضوي، وعلماءٌ أدركوا أن الجمود لا يصون الدين بل يجمّده. 
في طليعتهم كان القاضي عبدالله الوزير، رجل الفكر الدستوري وصوت التنوير المتزن، الذي تجرأ على طرح مشروع تاريخي لتقييد سلطة الإمام ووضع أسس دولة تُبنى على العدل والمواطنة لا على الوراثة والاستبداد.

في خضم هذه الحركة الوليدة، كان يقف الشاب الهادئ عبدالله السلال، يستمع أكثر مما يتحدث، يرصد أكثر مما يظهر. 
لم يكن من أولئك الذين يندفعون إلى المنابر، لكنه كان يحمل إيمانًا حاسمًا بأن الزمن لا يتغير بالصبر وحده، بل بالفعل المدروس والإرادة الواعية. 
ومن تلك الاجتماعات الصغيرة، التي بدت آنذاك أحلامًا تُتداول في الظل، بدأت الملامح الأولى للثورة اليمنية الحديثة تتشكّل.

لحظة الانفجار: من الحلم إلى السيف

في فجر فبراير 1948، اهتزت صنعاء على وقع أول ارتجاج حقيقي في جدار الإمامة. 
بعد سنوات من الهمس والتخطيط، تحوّلت الكلمات إلى فعل والحلم إلى مواجهة. 
تحالف العلماء والمثقفون والضباط، وأُعلنت ثورة الدستور — محاولة تأسيس نظام دستوري يقيد سلطة الإمام ويمنح الأمة حقها في الحكم.

كانت الخطة دقيقة وجريئة: اغتيال الإمام يحيى حميد الدين في طريقه من الحديدة إلى صنعاء، ثم تنصيب الإمام عبدالله الوزير إمامًا دستوريًا يلتزم بميثاقٍ وطني حديث. 
وفي تلك اللحظة المفصلية، كان السلال في قلب المشهد — ضابطًا في الحرس الملكي، لكنه يحمل ولاءً خفيًا للحلم الجديد. 
شارك في التحضير بصمت وتكتم، واضطلع بدور حاسم في تأمين مواقع داخل العاصمة.

دوّت البنادق وسقط الإمام، واهتزّت صنعاء على وقع المفاجأة. 
بدا لوهلة أن التاريخ انفتح على صفحة جديدة، وأن الإمامة القديمة قد انهارت إلى الأبد. 
لكن الحلم الوليد لم يُكتب له أن يكتمل؛ إذ سرعان ما استعادت الإمامة أنفاسها عبر ولده أحمد بن يحيى، الذي حشد القبائل وأنصار النظام وأعاد الإمساك بالعاصمة بعد أسابيع من النصر الموهوم.

انهارت الثورة وتبعها استباحة لمدينة سام، وموجة وقمع رهيبة لم تعرف اليمن مثيلًا. 
أُعدم كثير من قادتها، وسُجن آخرون، ومن بينهم عبدالله السلال الذي زُجّ به في سجن نافع، مكبلًا بين الحياة والموت. لكنه، في زنزانته المظلمة، لم ينكسر. 
أدرك أن ما حدث لم يكن نهاية الحلم، بل بدايته الحقيقية — تجربة ميلاد الجمهورية، وإن جاءت كمأساة. 
ومن خلف القضبان بدأ يتأمل بصمت الجندي وحكمة القائد، مؤمنًا بأن الثورات لا تموت بالرصاص بل تنضج بالألم.

الانكسار… السريع

لم تجرِ الرياح كما اشتهى الثوار. 
اليمن التي غلت بالحلم لم تكن مهيّأة لاحتضان التغيير، والنظام الجديد الذي وُلد على عجل لم يكن محصنًا. نهض الإمام أحمد بن يحيى، فجمع أنصاره في الشمال وقاد ثورة مضادّة اجتاحت صنعاء في غضون أسابيع.

تساقطت قلاع الحلم واحدة تلو الأخرى، وتحول النصر الوليد إلى نكسة دامية. أُعدم قادة الثورة في الساحات، وامتلأت السجون، وعادت الإمامة أكثر شراسةً على خنق كل صوت جديد. أما السلال، فقد نجا من المشنقة لكنه لم ينجُ من قبضة السجن، فاقتيد إلى زنزانةٍ ضيقة في نافع حيث غابت الشمس وبقي الفكر وحده. كانت تلك السنوات مخاضًا عسيرًا لاختبار الإيمان واليقين؛ وفي صمت تلك العتمة نما فيه يقينٌ بأن الثورة لا تموت بالهزيمة، بل تُولد من رمادها.

إرث ثورة …الدستور في روحه

كانت ثورة 1948 بالنسبة للسلال أكثر من محطة سياسية؛ كانت جرحًا ووصية في آنٍ واحد. 
جرحًا لأنها كشفت قسوة الإمامة وقدرتها على سحق الحلم في مهده، ووصية لأنها أيقظت قناعة راسخة بأن التغيير لا يولد من الغضب وحده، بل من الوعي والتنظيم والإيمان الطويل النفس.

تعلّم أن الحرية تُبنى في العقول قبل أن تُرفع في الميادين، وأن الثورة الحقيقية مشروع نهضة فكرية وأخلاقية تعيد تعريف العلاقة بين الشعب والسلطة، بين الجندي والوطن، وبين التاريخ والمستقبل.

وحين دوت في الأفق ثورة يوليو 1952 في مصر، أدرك أن زمن التحول يقترب. 
رأى في نجاح الضباط الأحرار عبرةً: 
أن العسكر يمكن أن يكونوا حملةَ التحرير لا أدوات الطغيان. 
منذ ذلك الحين لم يعد حلم الجمهورية أمنيةً مؤجلة، بل صار رسالة حياة.

في سجن نافع… ميلاد الصبر الجمهوري

في عمق الجبال، حيث يقبع سجن نافع كقلعة معزولة، كان السلال يواجه امتحانه الأصعب. 
جدران باردة، ظلام كثيف، وحراس لا يعرفون سوى لغة القسوة. 
لكن داخل تلك العزلة وُلدت أصفى لحظات الوعي والنضوج في حياته.

لم يكن السجن جدارًا يفصله عن العالم، بل مرآة يرى فيها وجه الوطن الجريح. 
مع كل صباح كان يتأمل كيف يُسجن الإنسان في وطنه، وكيف يُختطف الحلم ثم يُعاد تسويغه كخيانة. 
كان الألم يتحول إلى قوة داخلية، والصمت إلى تأمل في معنى الثورة والحرية والوفاء للفكرة.

كتب في داخله وصيته الفكرية: 
أن الثورة لا تقوم بالسلاح فقط، بل بالإيمان، وأن الإيمان لا يُختبر في ساحات النصر بل في صبر الهزيمة. 
كانت سنوات السجن ورشة إعداد روحي وتاريخي؛ خرج منها ليس أسيرًا نجا من الموت، بل قائدًا جديدًا واثق الخطى، مؤمنًا بأن السجون قد تُقيّد الأجساد لكنها لا تسجن الفكرة.

في السجن… صمتٌ يصنع الرجال

داخل الجدران الباردة أدرك السلال أن الثورة فشلت لأنها ولدت بلا تنظيم عسكري قوي وبلا قاعدة اجتماعية متماسكة. 
قضى لياليه يراجع تفاصيل ما حدث، يعيد رسم الطريق القادم بعقلٍ هادئ. ومن تلك التجربة القاسية وُلِدت لديه قناعة استراتيجية كانت لاحقًا حجر الأساس لثورة سبتمبر:

 «لن تقوم للجمهورية قائمة إلا إذا كان الجيش نفسه هو قائد التغيير.»

السجن لم يكن موتًا بطيئًا، بل مختبرًا للصلابة، مدرسة لصناعة القائد الذي لا ينكسر.

العودة إلى صفوف الجيش… الضابط الذي تعمّد بالنار

حين خرج من ظلمات السجن إلى نور الحياة، لم يكن خروجًا عاديًا بل ولادةً جديدة. 
أعيد إلى الخدمة بتوصية شخصيات تقدر كفاءته وانضباطه، لكنه عاد وقد حمل في ذاكرته مشهد رفاقه المعلقين وصوت الثورة التي خُنقت وهي تحبو.

منذ ذلك الحين صار أكثر حذرًا ودقةً في فهمه للسياسة والإمامة والقبيلة. 
أدرك أن المعركة القادمة يجب أن تُدار بعقل بارد وتنظيم محكم، لا بانفعال عاطفي. 
مارس واجباته بانضباط نموذجي، يراقب بصمت، ويخفي مشروعًا مؤجلًا ينتظر لحظة النضج الكبرى.

نذر العاصفة… الطريق إلى فجر سبتمبر

كانت سنوات ما بعد الخروج من السجن هدوءًا يسبق العاصفة. 
في الظاهر ضابط ملتزم، وفي الباطن عقل يخطط بصمت لميلاد وطن جديد. 
علمته تجربة 1948 أن الأحلام الكبيرة لا تقوم على الحماسة وحدها، بل على شبكة محكمة من الوعي والتنظيم والتحالفات الدقيقة.

خلال الخمسينيات هبت رياح التغيير عبر العالم العربي، وحملت صدى ثورات ونداءات التحرر. 
تعمق ارتباط السلال بالفكر القومي واقترب من ضباطٍ وطنيين تشاركوا معه الرؤية: 
نواة الوعي الجمهوري القادم. 
اجتمعت خيوط الحلم في الظل، حتى بدا أن صنعاء تختنق من صمتها الطويل، وأن فجرًا جديدًا يستعد لأن يطلّ من خلف الجبال، حاملاً نداءً واحدًا:

 «آن لليمن أن تستيقظ.»

الخلاصة:

هكذا خرج السلال من تجربة 1948 أكثر وعيًا ونضجًا. في السجن تعلّم كيف يُصنع القائد من رماد الخسارة، وفي العودة أدرك أن كل فشلٍ عظيم هو تمهيدٌ لنصر أعظم. 
كان يعلم أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا حين يجد الرجال الذين يعيدونه، وأنه سيكون أحدهم.

ومن رماد تلك الهزيمة بدأت نواة الثورة الجديدة التي ستنفجر بعد أربعة عشر عامًا، في ليلة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 — ليلة تحول فيها السلال هذه المرة من ضابطٍ حالم إلى قائدٍ للتاريخ، وهو يفتح صفحة الجمهورية الأولى في اليمن.

آخر الأخبار