بحث

عبدالله السلال … قائد الثورة حين يولد الرجال في لحظة التاريخ (3)

مصطفى بن خالد

 

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

عبدالله السلال …
قائد الثورة
حين يولد الرجال في لحظة التاريخ (3)

بغداد ... حين انفتح الضابط اليمني على فضاء الأمة

 التكوين العسكري … وبذرة الوعي القومي

كانت ثلاثينيات القرن العشرين زمنًا يضجّ بالتحولات في العالم العربي؛ زمنًا تتنازع فيه الأحلام مع الاستعمار، وتتشكل فيه الحركات القومية من رحم المعاناة، وتغلي المدن العربية بأسئلة النهضة والتحرر .

 في ذلك الأفق المشحون، كان شباب الأمة يبحثون عن طريقٍ جديد يليق بكرامتهم وتاريخهم .

وفي خضم تلك اللحظة المتوثبة، كان هناك شابٌ يمنيٌّ نحيل القامة، متّقد البصيرة، يُدعى عبدالله يحيى السلال، يشدّ رحاله نحو بغداد . 
لم تكن الرحلة مجرد انتقالٍ جغرافي، بل عبور فكري وإنساني من أسوار العزلة إلى فضاءات الأمة الواسعة .

في الكلية الحربية العراقية، لم يتعلم السلال فقط فنون القتال والانضباط، بل تعلّم فلسفة الجندية في معناها الأسمى :
 أن يكون الضابط خادمًا لوطنه لا سيدًا عليه، وأن تكون البندقية صوتًا للعدالة لا أداة للطغيان . 
هناك، وسط زخم الفكر القومي ونبض العروبة الصاعد، بدأ وعيه يتشكل بصورة جديدة؛ وعي يرى في تحرر اليمن جزءًا من تحرر الأمة العربية، وفي النضال الوطني حلقة من معركة كبرى ضد الاستبداد والتجزئة .

لقد كانت بغداد بالنسبة له أكثر من محطة تعليمية، كانت ورشة لتشكيل الرؤية وصقل الإرادة، وبداية الطريق نحو قدرٍ لم يكن بعد قد تكشّف تمامًا، لكنه كان يختمر في أعماقه بصمت الجبال وصبرها .
 ومن هناك، سيعود إلى صنعاء لا كضابطٍ فحسب، بل كحاملٍ لمشروع وطنٍ جديد ينتظر فجره .

في رحاب … الكلية الحربية

حين وطئت قدما عبدالله السلال أرض العراق، كانت بغداد تضجّ بالحياة والفكر، وتغلي بالتيارات السياسية والأفكار التحررية التي تشق طريقها في العالم العربي . 

هناك، في قلب تلك العاصمة التي كانت آنذاك منارةً للثقافة والعروبة، وجد نفسه أمام فضاءٍ جديد من الفكر والانضباط والمسؤولية .

في الكلية الحربية العراقية، تشرّب السلال روح الجندية الحديثة؛ فتعلم أن الانضباط ليس طاعةً عمياء، بل التزامٌ نابع من الوعي بالواجب، وأن السلاح لا يُرفع إلا دفاعًا عن الحرية والكرامة، لا تأكيدًا لسلطة الحاكم .

كان يرى في أساتذته العراقيين نموذجًا مختلفًا للضابط العربي :
 ضابط يحمل الفكر قبل أن يحمل السلاح، ويؤمن بأن الجيش ليس أداة في يد الحاكم، بل درعٌ للوطن وحارسٌ لإرادته . 
هناك، بدأت تتزعزع في داخله صورة الجندية التي عرفها في ظل الحكم الإمامي، حيث كانت البندقية موجهة إلى صدور الناس لا إلى أعداء الأمة .

ومن بين ميادين التدريب وصفوف الدروس، أخذ وعي السلال يتبلور على مهل، متشربًا روح العروبة الحديثة التي ترى أن تحرر كل قطر عربي هو لبنة في صرح الحرية الكبرى للأمة كلها .

رياح … القومية العربية

في بغداد، حيث كانت العواصم العربية تنبض بفجرٍ جديد، هبّت على عبدالله السلال رياح القومية العربية كعاصفة فكرية هزّت أركان وعيه .
من مقاهي الرصافة والكرخ، ومن منشورات المثقفين وخطب المنابر، تسرّبت إلى روحه تلك الموجة التي كانت تدعو إلى التحرّر والوحدة والكرامة .
 هناك، سمع لأول مرة أسماءً مثل ساطع الحصري وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر، فشعر أن ما يجري في المشرق العربي من حراكٍ ونهضة هو الصدى البعيد لما يختنق في صنعاء من وجعٍ وصمت .

كان يرى في دعوات القومية العربية لغةً جديدة للحرية، تتجاوز حدود الأقطار وتوحد آمال الشعوب تحت راية واحدة .
 لم تكن الفكرة بالنسبة إليه مجرّد تنظير سياسي أو شعارٍ عابر، بل نداءً داخليًا مشتعلًا يذكّره في كل لحظة بليل الإمامة الطويل في اليمن، وبأن خلاص وطنه الصغير لا ينفصل عن نهضة الأمة كلها .

ومن بين أروقة الكلية الحربية ومجالس المفكرين العرب، أخذ السلال يدرك أن تحرير اليمن ليس مسألة محلية، بل جزء من معركة العروبة الكبرى لاسترداد الكرامة والوعي . 
ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الشاب اليتيم من سنحان مجرّد ضابطٍ يمنيٍّ في بعثة دراسية، بل صار مشروعًا لثائرٍ عربيٍّ يرى في بندقيته وسيلة لبناء وطن، لا لخدمة سلطان .

التحوّل من الطالب … إلى الضابط الحالم

في العراق، بدأ عبدالله السلال يكتشف أن الجندية ليست مجرد انضباطٍ في الميدان أو براعة في حمل السلاح، بل فكرٌ يُبنى عليه وطن . 
أدرك أن الجيوش العصرية لا تُشيَّد بالمدافع وحدها، بل بالعقول التي تعرف لماذا تقاتل ولأجل من .

في ساحات التدريب وقاعات الدرس، التقى بضباطٍ عربٍ أحرارٍ، كانت تدور بينهم أحاديثٌ خافتة عن إصلاح الجيوش من الداخل، وعن أوطانٍ تبحث عن خلاصها من حكم الأسر والإقطاع، ومن قيود الاحتلال والتبعية . 
كانت كلماتهم تشعل في داخله شرارة الأسئلة، وتوقظ وعيًا جديدًا بأنّ التحرّر لا يُفرض من الخارج، بل يُصنع من داخل المؤسسة ذاتها .

تركَت تلك الحوارات أثرًا عميقًا في نفسه، وصاغت ملامح موقفه الوجداني والسياسي من الحكم الإمامي في اليمن، الذي كان يرى فيه وجهًا آخر من وجوه الاستبداد .
وفي ليالٍ كثيرة من غربته البغدادية، كان السلال يجلس في ساحة الكلية الحربية، يرفع بصره نحو السماء ويخاطب ذاته في تأملٍ صامتٍ كما روى رفاقه :

 “ اليمن ليست أقلّ من هذه الأوطان …
شعبنا يستحق أن ينهض،
وأن يكون له جيشٌ يخدم الوطن لا الإمام .”

في تلك اللحظات، كان يتحول في صمتٍ من طالبٍ منضبط إلى ضابطٍ حالم، ومن جنديٍّ في بعثةٍ إلى حاملِ مشروعٍ وطنيٍّ لم تتضح ملامحه بعد، لكنه كان يختمر في أعماقه كقدرٍ قادم لا مفر منه .

العودة إلى صنعاء : 
الضابط الذي عاد ومعه الفكرة

حين عاد عبدالله السلال إلى صنعاء في أواخر الثلاثينيات، لم يعد ذلك الشاب ذاته الذي غادرها قبل أعوامٍ قليلة .
 عاد بزيٍّ عسكري أنيق يحمل رتبة ضابط، لكن خلف البزة كان يقيم عقلٌ قوميٌّ جديد وروحٌ متمرّدة على الجمود .

استقبله الإمام يحيى باعتباره أحد أبنائه المخلصين الذين تشرّبوا الانضباط والولاء، فعينه ضابطًا في الجيش النظامي، مطمئنًا إلى طاعته، غافلًا عن التحوّل العميق الذي صنعته بغداد في وجدان ذلك الشاب . 
فقد عاد السلال لا بوصفه جنديًّا في خدمة الحاكم، بل بوصفه رجلًا مؤمنًا بأن الجيش هو روح الأمة وسلاحها للتحرر لا أداة طغيانها .

من موقعه العسكري بدأ يقرأ الواقع بعينٍ ناقدة 
 كان يرى جيشًا يُدار بالعصبية والولاء الشخصي، تُباع فيه الرتب، وتُورَّث المناصب، وتُحاصر الكفاءات. رأى سلاح الوطن موجَّهًا ضد الشعب، لا في سبيله، وشاهد كيف يتحوّل الجندي إلى خادمٍ في بلاط الإمام بدل أن يكون حارسًا للوطن .

تلك المفارقة كانت اللحظة التي انكسر فيها الصمت داخل نفسه، فترسخ في وجدانه الإيمان بأن تحرير اليمن لا يمكن أن يبدأ من الشارع أو القبيلة، بل من قلب الجيش نفسه .
 ومنذ تلك اللحظة، بدأ السلال أولى خطواته في طريقٍ طويل، سيمتدّ حتى فجر السادس والعشرين من سبتمبر، يوم يتحوّل هذا الوعي إلى ثورةٍ تصنع التاريخ
————-

من التجربة إلى الرؤية : 
إرهاصات الضباط الأحرار

مع مرور السنوات، لم يكن السلال ضابطًا يؤدي واجبه فحسب، بل كان يراقب التاريخ وهو يتشكل ببطء خلف جدران الصمت . 
كانت تجربته في الجيش الإمامي مختبرًا واقعيًا لأفكاره القومية، إذ رأى بعينيه كيف تتحول المؤسسة العسكرية — التي يفترض أن تكون درع الأمة — إلى أداةٍ بيد الحاكم الفرد، تُستخدم لتثبيت سلطته لا لحماية الشعب .

بدأت الأسئلة تتكاثر في ذهنه :
 كيف يمكن لجيشٍ بلا عقيدة وطنية أن يصون كرامة وطن؟ وكيف لشعبٍ مقموعٍ أن ينهض دون وعيٍ منظمٍ يقوده نحو الحرية؟
هذه الأسئلة لم تبقَ تأملاتٍ داخلية، بل تحوّلت إلى قناعةٍ استراتيجية بأن التغيير الحقيقي لا بد أن يبدأ من داخل النظام نفسه، من قلب المؤسسة العسكرية، حيث يمكن للفكرة أن تتسلّل في صمت، وتتحول إلى حركةٍ واعية .

في تلك الفترة، أخذ السلال يلتقي بضباطٍ شبابٍ تخرجوا مثله من مدارس الأيتام أو من بعثاتٍ خارجية، يحملون الحلم ذاته وإن تفرقت بهم المواقع .
 كانوا يتبادلون الأحاديث في خفاء، يتهامسون حول الإصلاح والحرية، دون أن يدروا أن تلك اللقاءات الصغيرة كانت البذرة الأولى لما سيُعرف لاحقًا باسم تنظيم الضباط الأحرار .

كان السلال، بما امتلكه من تجربةٍ ناضجة وهدوءٍ رصين، الجسر الذي ربط الحلم بالواقع .

 لم يكن خطيبًا ثوريًا أو صاحب شعاراتٍ صاخبة، بل عقلًا منظمًا يدرك أن الثورة تحتاج إلى إعدادٍ طويل وصبرٍ استراتيجي، وأن لحظة التغيير تأتي عندما تكتمل شروطها في صمتٍ لا في ضجيج .

هكذا بدأ التحول من مجرد تذمّرٍ مكتوم إلى مشروعٍ وطنيٍّ متكامل، تتلاقى فيه الإرادة الفردية بالسياق التاريخي، لتتشكل أول نواةٍ فاعلة للثورة التي ستغيّر وجه اليمن إلى الأبد .

يتبع

آخر الأخبار