شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
بين الموت الصامت وغياب الضمير الدولي :
قراءة معمقة في خطاب جويس موسيا أمام مجلس الأمن
في قاعة مجلس الأمن، حيث تُصاغ مصائر الأمم خلف أبواب البلاغة الدبلوماسية الباردة، وحيث تتقاطع المصالح كما تتقاطع خطوط الخرائط في يد الجغرافيا السياسية، اخترق الصمت صوتٌ مختلف النبرة، لا يُشبه بيانات الإحاطة المعتادة . بصوت يحمل ثقل الكارثة، أطلقت جويس
موسيا، نائبة الأمين العام للشؤون الإنسانية، جملة كالسهم: “ الأطفال في اليمن يموتون اليوم أكثر بفعل الجوع، لا بسبب الرصاص أو القصف ” .
لم تكن كلماتها مجرد توصيف لأرقام جامدة، بل كانت كشفًا صريحًا عن مأساة تحوّل فيها وطنٌ منكوب من ميدان دموي إلى مسرح موت بطيء، حيث لا تُسمع أصوات المدافع، بل أنين المعدة الخاوية، وحيث لا يقتل الرصاص بقدر ما تفتك المجاعة بجسد طفل لا يملك إلا عينيه شاهدة على الغياب .
من قاعة المجلس إلى الميدان
ما بدا في قاعة مجلس الأمن كلمات موزونة بميزان الدبلوماسية، يتجسد في الميدان كجحيم يومي يلتهم ببطء ما تبقى من قدرة اليمنيين على الاحتمال .
هناك، لا تُسمع خطابات ولا تُرى أعلام، بل تُقاس الحياة بعدد الوجبات المؤجلة، وبطول الصف أمام أكياس الطحين، وبالزمن الذي يستغرقه جسد طفل لينطفئ تحت وطأة الجوع .
في القرى النائية والمخيمات الممزقة، تتحوّل المعونات الغذائية إلى شريان حياة هشّ، لكنه خاضع لمعادلات تفاوضية لا يدركها الجائع، فيما يترجم الحصار والقيود اللوجستية إلى أمعاء خاوية وأحلام مقطوعة .
وبينما تُناقش في نيويورك صيغ القرار ومشاريع التمويل، يكتب اليمنيون على أرضهم تاريخًا آخر، حيث يصبح الخبز أغلى من البنادق، وكسرة الطعام أكثر تأثيرًا من ألف قرار دولي لم يُنفّذ .
الجوع :
السلاح الأعظم فتكا وأشدّ إيلامًا
لم تكن أرقام جويس موسيا مجرد سرد إحصائي نمطي يُتلى في أروقة الأمم المتحدة، بل كانت نداءً مزلزلاً ينطق بقسوة الواقع المميت .
نصف أطفال اليمن دون سن الخامسة يتداعون تحت وطأة سوء التغذية الحاد، بينما يقف أكثر من 17 مليون إنسان على حافة الهاوية الجوعى، منهم 2.3 مليون طفل و1.3 مليون امرأة حامل أو مرضع يشرعون في معركة البقاء الوحشية يوميًا، بأجساد تتآكل وأرواح تتعثر .
في هذه المعادلة القاسية التي ترسمها خطوط الصراع، تحوّل الغذاء إلى عملة نفعية تتداولها أذرع السلطة والسياسة، تُمنح وتُسحب وفقًا لتوازنات القوى، حيث يظل المدنيون — بطريقة مأساوية — الأضعف والأكثر استنزافًا في ميزان الخسائر الإنسانية .
تآكل القدرة …
على الإغاثة
في مواجهة هذا المشهد المأساوي، لا يقتصر الخطر على تفاقم الجوع، بل يمتد إلى انهيار منظومة الإغاثة نفسها .
فالمخازن الأممية تتقلص محتوياتها بوتيرة أسرع من وتيرة وصول التمويل، والمنظمات الإنسانية تعمل تحت ضغط رباعي خانق : شح الموارد، الفساد، تعقيدات الوصول، واشتراطات المانحين التي غالبًا ما تضع السياسة قبل الحياة .
تآكل البنية اللوجستية للإغاثة يعني أن المساعدات، حتى حين تتوفر، تصل متأخرة أو مجتزأة، فيما يضطر العاملون الإنسانيون إلى تقليص الحصص أو استبعاد بعض المستفيدين وفق معايير قاسية .
ومع استمرار تعطيل الممرات الآمنة وتزايد المخاطر الأمنية، يزداد الانفصال بين قرارات نيويورك واحتياجات القرى النائية، لتتحول الأزمة من أزمة غذاء إلى أزمة وصول إلى الغذاء، وهي معادلة أكثر فتكًا لأنها تضرب قلب القدرة الدولية على التدخل الفعّال .
بين السياسة والإنسانية :
مأزق الأخلاق في قلب مجلس الأمن
وضع خطاب جويس موسيا مجلس الأمن أمام مرآة أخلاقية لا مهرب منها :
هل تدار النزاعات عبر معادلات المصالح الضيقة، أم يُنجز إنقاذ جيل كامل من الانقراض ؟ الإجابة تبدو بديهية في فضاء الإنسانية، لكنها على أرض السياسة تبدو معقدة، تتشابك فيها خيوط النفوذ الإقليمي والدولي، وتُعاد صياغة الأولويات وفق حسابات دقيقة لا تعرف الرحمة .
في هذا المتاهة، يُصبح ضخ شريان الحياة لليمن رهينًا بصفقات وتوافقات تكاد تكون نادرة، فتتضاعف تكلفة الكارثة الإنسانية مع كل يوم يُهدر في دوامة التأجيل والتردد .
قراءة استراتيجية متقدمة :
بين المخاطر والتحديات، وأفق الحلول
إن المخاطر التي يحملها استمرار الأزمة الإنسانية في اليمن تتجاوز حدود الأزمة الغذائية إلى محاور استراتيجية متعددة، حيث يلتقي الأمن الإنساني بالأمن السياسي، ويتقاطع الاستقرار المحلي مع الأمن الإقليمي والدولي .
إذا ما استمر العالم في التمادي في تأجيل التدخل الجاد، أو استمرار التعامل مع الأزمة كملف إنساني بحت، فإن النتائج ستكون كارثية .
أولًا :
من المرجح أن يؤدي تدهور الأوضاع المعيشية إلى تفكك النسيج الاجتماعي في اليمن، ما يعزز من فرص انتشار الجماعات المسلحة والفكر المتطرف، ويعزز من انقسام القوى المحلية، مكرسًا واقعًا من الفوضى يصعب السيطرة عليه .
هذا الانفلات الأمني لن يقتصر أثره على اليمن وحده، بل سيتسلل عبر حدودها ليؤثر على استقرار دول الجوار، ويمد جذوره إلى الصراعات الإقليمية الكبرى، ما يُنذر بتبعات أمنية وجيوسياسية لا تحمد عقباها .
ثانيًا :
يحمل استمرار الأزمة رسالة واضحة للمجتمع الدولي بضرورة إعادة بناء آليات التعاون الدولي بين الدول والمنظمات الإنسانية عبر تبني استراتيجية شاملة تجمع بين الضغط السياسي والتمويل الفعال والتنسيق اللوجستي لتسهيل وصول المساعدات دون شروط تعيقها .
كما يجب أن يترافق ذلك مع جهود دبلوماسية مكثفة لإنهاء النزاع عبر تسويات سياسية عادلة وشاملة تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية أولاً والإقليمية وتحديات الأمن المشترك .
ثالثًا :
لا بد من استثمار فرص التكنولوجيا والابتكار في قطاع الإغاثة لتحسين استجابة المجتمع الدولي، مثل استخدام أنظمة تتبع ذكية لتوزيع المساعدات، ومحاربة الفساد، وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص المحلي لتوفير الدعم المستدام، والاهتمام بتطوير البنية التحتية الصحية والغذائية في المناطق المتضررة كجزء من استراتيجية طويلة الأمد .
إن خطاب جويس موسيا في مجلس الأمن حقيقةً لا يُشكل، فقط صرخة إنسانية، بل دعوة استراتيجية ملحة لكل صانع قرار ومسؤول دولي للنظر إلى الأزمة اليمنية باعتبارها نقطة مفصلية، حيث إما أن تتخذ القرارات الصائبة الآن لإنقاذ أرواح ومستقبل جيل كامل، أو أن نكون شهودًا على انهيار أكبر في استقرار المنطقة، مع تداعيات قد تمتد إلى ما هو أبعد بكثير مما نتخيل .
الطريق إلى الإنقاذ :
استجابة متكاملة لمأساة مستعصية
أرسل خطاب جويس موسيا في مجلس الأمن رسالة ضمنية، لكنها حاسمة وواضحة :
الحلول الجزئية والتدابير المؤقتة لم تعد تكفي، ولا تنقذ من مستنقع الأزمة اليمنية المعقدة .
اليوم، المطلوب هو تحرك دولي منسق ومتعدد المحاور، يستهدف قلب الأزمة وعصبها الحيوي، عبر ثلاثة أبعاد متوازية لا تقبل التفريط :
1- تمويل فوري وكبير لبرامج الغذاء والتغذية، مع أولوية مطلقة للأطفال والأمهات الحوامل والمرضعات، لأن إنقاذ هذا الجيل هو استثمار في مستقبل اليمن ومستقبل الأمن الإقليمي .
2- فتح ممرات إنسانية آمنة، تترافق مع ضمانات دولية وإقليمية حازمة لوقف استهداف موظفي الإغاثة، ليصل الدعم إلى كل زاوية من زوايا البلاد دون عوائق أو تأجيل .
3- دعم الاستقرار الاقتصادي، عبر إجراءات نقدية عاجلة، شفافة وفعّالة، على غرار المبادرات التي بدأها البنك المركزي في عدن، مع إلزام الحكومة الشرعية الفاسدة بوقف صرف مرتبات مسؤوليها وكوادرها بالدولار، لما لذلك من أثر مباشر في استنزاف الاحتياطي النقدي وزيادة الضغوط على العملة الوطنية .
هذه الخطوة، إلى جانب إصلاح منظومة الرقابة المالية وإحكام الشفافية، تمثل ضرورة ملحّة لتخفيف الضغط عن الأسواق، وكبح التضخم، وحماية القدرة الشرائية للمواطنين، بحيث لا تتحول الأزمات الاقتصادية إلى وقود إضافي لمأساة إنسانية متفاقمة .
إلى جانب هذه المحاور الضرورية، يظل تحقيق المصالحة الوطنية وبناء حل سياسي عادل وشامل هو المدخل الحقيقي والنهائي لإنهاء المعاناة المستمرة . فبدون تسوية سياسية تراعي تطلعات جميع الأطراف، وتعيد صياغة المشهد اليمني على أسس العدل والمشاركة الواسعة، ستظل كل جهود الإغاثة والتثبيت هشّة ومهددة بالانهيار .
الإنقاذ الحقيقي يبدأ من هنا :
بوضع الإنسان اليمني في مركز القرار، وإيقاف التدخلات البشعة من قبل دول الإقليم، والعمل على إنهاء الحرب التي تفتك ليس فقط بالأجساد، بل بآمال الأجيال القادمة .
الخلاصة :
بين ضمير العالم وخريطة القوة
لم يكن خطاب جويس موسيا مجرد إحاطة روتينية تُقدّم في أروقة الأمم المتحدة، بل كان اختبارًا حقيقيًا لضمير المجتمع الدولي، ومرآة لمدى إنسانيته وقدرته على التحرك أمام مأساة متفاقمة .
اليوم، يقف اليمن على حافة جرف إنساني خطير، حيث لم يعد السؤال مطروحًا حول قدرة القوى العظمى على التدخل، بل حول إرادتها الحقيقية في اتخاذ القرار الذي ينقذ الأرواح ويمنع انهيارًا كاملاً .
بين رغبة الشعوب المتعطشة للنجاة وصمودها في وجه العاصفة، ودهاء السياسات التي تحمي المصالح وتوزع النفوذ، يبقى الزمن العدو الأكبر، والواقع المرير أن الجوع أصبح سلاحًا لا يعرف هدنة ولا توقف .
العالم بين موائد مكتظة …
وأفواه جائعة
إنها لحظة فاصلة، يختبر فيها التاريخ ضمير هذا العصر : هل سيصغي العالم إلى صراخ الطفولة اليمنية، أم سيبقى غارقًا في خرائط النفوذ وموازين القوة، تاركًا الملايين على حافة الهلاك ؟
مشهد مزدوج القسوة؛ على جانبٍ موائد مكتظة بألوان الطعام والبذخ، وعلى الجانب الآخر أفواه جائعة تحصي أنفاسها الأخيرة .
في هذا التناقض المروّع، تتكشف حقيقة السياسة حين تُجرّد من إنسانيتها، ويُعرّي الجوع كل ادعاءات الحضارة .
فالزمن لا ينتظر، والموت لا يعرف لغة المساومات، أما الضمير العالمي، فإما أن ينهض الآن …
أو يسقط إلى الأبد .