شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
رأس عيسى…
حين تكتمل خريطة التدمير :
أمريكا تدخل على خط الإجهاز على اليمن
في توقيتٍ بالغ الحساسية، جاء استهداف ميناء رأس عيسى النفطي ليمزق آخر ستائر التعمية، ويكشف بجلاء أن ما يتعرض له اليمن ليس سوى فصل جديد في حرب التدمير الشامل والممنهج التي تطال الجغرافيا والإنسان .
لم يعد هناك مجالاً للتأويل أو الشك :
ما بدأه تحالف السعوديين والاماراتيين من استنزاف ممنهج لمقدرات اليمن وسيادته، تتولى الولايات المتحدة الآن استكماله بأدواتها المباشرة، معلنة دخولها العلني على خط الإجهاز الكامل على ما تبقى من بنية الدولة ومقومات الحياة .
إن استهداف رأس عيسى لا يُقرأ بمعزل عن المشهد الكبير، بل يُعدّ جزءاً من خريطة أوسع لإعادة تشكيل اليمن على مقاس الخراب، في محاولة لفرض واقع لا سيادة فيه، ولا قرار، ولا مستقبل .
من التحالف إلى الوصاية الأمريكية المباشرة :
حين تتحول الحرب إلى مشروع كسر الإرادة اليمنية
ما عجز “التحالف ” عن تحقيقه طيلة سنوات من القصف والحصار والتجويع، تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى استكماله بوسائل أكثر مباشرة وضربات أكثر دقة، تستهدف ما تبقى من أعمدة الدولة ومصادر قوتها السيادية .
لم يكن ميناء رأس عيسى مجرد منشأة اقتصادية، بل كان شرياناً وطنياً يعكس مكانة اليمن وموقعه الاستراتيجي، ورمزاً لكرامة شعب يقاتل من أجل البقاء .
إن استهداف هذا الميناء لا يمكن قراءته كحدث منفصل، بل كإعلان صريح عن انتقال المشهد من حرب بالوكالة إلى وصاية علنية، ومن غطاء “التحالف” إلى الهيمنة الأمريكية المباشرة .
لقد سقطت كل الأقنعة :
لم تكن الحرب يوماً على “ انقلاب مشبوه ”، ولا دفاعاً عن “ شرعية فاسدة ” فصلوها على مقاسهم، بل كانت – منذ رصاصتها الأولى – مشروعاً لإسكات صوت اليمن، وتفكيك كيانه، وتكريسه كأرض بلا قرار، وشعب بلا سيادة، ودولة في المزاد .
لماذا رأس عيسى؟
لأن استهداف الشريان يعني خنق الجسد
لم يكن إختيار ميناء رأس عيسى ضرباً عشوائياً، بل قراراً محسوباً بدقة، يذهب إلى قلب المعركة الاقتصادية ويستهدف آخر ما تبقى من أوردة الحياة في الجسد اليماني المنهك .
فهذا الميناء ليس مجرد مرفق نفطي، بل هو شريان سيادي حيوي، ونافذة إستراتيجية لتصدير النفط الخام، ومصدر أساسي لتوفير العملة الصعبة التي تشكّل طوق نجاة لأي سلطة قادمة في اليمن تحاول الصمود في وجه العاصفة .
رأس عيسى هو ما تبقى من قدرة على توريد المشتقات النفطية، التي تعتمد عليها حياة الناس من المزارع وحتى غرفة الإنعاش في المستشفى .
إن ضربه ليس استهدافاً لهيكل خرساني، بل لطاقة الناس، لغذائهم، لدوائهم، لحياتهم اليومية، ولمعنى الدولة ذاته .
إنه تجويع ممنهج يرتدي زي الحرب… وخنق متعمد يُنفّذ بضربات عسكرية مدروسة .
الضربة التي تطال الإنسان قبل الحجر
حين يُستهدف ميناء كـرأس عيسى، لا يُقصف منشأ نفطي فحسب، بل تُقصف القدرة على الحياة.
فالمشتقات النفطية التي تمرّ من خلاله ليست سلعة ترف، بل حاجة يومية تمس كل تفصيلة من تفاصيل المعيشة :
من تشغيل المستشفيات، إلى ضخ المياه، إلى نقل الغذاء والدواء، وحتى تشغيل الأفران ووسائل النقل .
النتيجة؟
موجة جديدة من المعاناة تتكاثر بسرعة النار في هشيم الأزمات :
إرتفاع جنوني في أسعار الوقود، اختناقات في الإمدادات الطبية، تعطل للزراعة والري، واتساع رقعة الجوع والعوز في بلد يعيش نصف سكانه على حافة المجاعة .
استهداف رأس عيسى إذن، هو رسالة بالغة القسوة :
لا نجاة لأحد، لا استثناء للمدنيين، لا خطوط حمراء للإنسانية .
إنها ضربة لا تستهدف العسكر ولا السلاح، بل تستهدف قلب المجتمع، وتضرب المدني الأعزل في بيته، وفي لقمة عيشه، وفي صموده الأخير .
استهداف ميناء رأس عيسى، إذاً، لم يكن مجرد عمل عسكري عابر، بل إعلان صارخ بأن اليمن محكوم عليه بالتجويع المُمنهج، وأن كل محاولة لالتقاط الأنفاس اقتصادياً، أو لملمة ما تبقى من قدرة على الصمود، ستُقابل بضربات مُحطّمة .
إنها ليست حرباً على منشآت، بل على الإرادة…
على الحق في الحياة .
ففي كل صاروخ يُطلق على البنية الاقتصادية، رسالة واضحة :
لا يُراد لليمن أن ينهض، ولا يُسمح له حتى بالبقاء واقفاً .
كل منفذ حياة يُغلق عمداً، وكل بصيص أمل يُطفأ بوعي، في مشروع طويل النفس، هدفه تحويل اليمن من دولة ذات سيادة إلى حطام جغرافي تحت الوصاية، لا يملك من أمره شيئاً .
من التجويع إلى الإبادة الناعمة :
حين يُزرَع الموت بلا دخان ولا جثث
ما تمارسه الولايات المتحدة اليوم في اليمن يتجاوز حدود العقوبات والضربات العسكرية ؛ إنه شكل جديد من الحرب… إبادة ناعمة تُنفّذ بأدوات اقتصادية مُحكمة، تُجفَّف فيها الموارد، وتُستهدف مفاصل البقاء، وتُخنق الحياة ببطئ، دون الحاجة إلى قصف مباشر أو طلقات نارية .
هذه الحرب لا تترك جثثًا في الشوارع، لكنها تزرع الموت في كل بيت :
في قلب أمّ عاجزة عن شراء دواء لطفلها، في غرفة عمليات تُظَلَّم بسبب انقطاع الكهرباء، في مدرسة أُغلقت أبوابها، وفي أسواق تتضاعف فيها الأسعار حتى يعجز الناس عن شراء الرغيف .
إنه موت بلا ضجيج…
قتلٌ صامت يستهدف المعنويات قبل الأجساد، ويصيب الأمل في مقتل .
إنها معركة تُخاض بسلاح خفي، لكنه لا يقل فتكاً عن القنابل .
سقوط رأس عيسى :
15 غارة لا تستهدف منشأة…
بل تقصف الحياة نفسها
لم يكن تدمير ميناء رأس عيسى مجرد ضربة عسكرية، بل إعلان حرب على آخر ما تبقّى من مقومات البقاء في اليمن .
15 غارة إجرامية لم تسقط فقط على الإسمنت والفولاذ، والناس التي تمارس عملها في منشآت خدمية مدنية، بل على الخبز والدواء، وعلى الأمل في صدور الملايين .
إنها ليست خسارة اقتصادية عابرة، بل انهيار شامل لأساسيات الحياة :
* الوقود، الغذاء، والدواء ستتحوّل إلى سلع نادرة تُباع بأثمان فاحشة، يُحرم منها من يحتاجون، ويحتكرها من يملكون .
* الاقتصاد المحلي سيتوقف، وستُغلق أبواب آلاف البيوت التي كانت تعتمد على هذا الشريان الحيوي للحياة .
* ملايين اليمنيين سيتحوّلون من فقراء يعانون… إلى جائعين لا يجدون ما يسدون به رمقهم، ولا ما ينقذ أطفالهم من الموت البطئ .
* وأي أمل في استعادة الدولة أو مجرد الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، سيتلاشى شيئاً فشيئاً، تحت أنقاض هذا المرفق الحيوي الذي كان صمّام أمان وطني .
لقد سقط رأس عيسى… وسقوطه ليس نهاية منشأة، بل بداية مرحلة أشد ظلاماً، عنوانها :
“ الحياة تحت الحصار، والموت على جرعات ”.
سقوط رأس عيسى ليس خسارة مرفق… بل سقوط درع كان يحمي اليمن من الغرق الكامل في العتمة والفوضى .
الخلاصة :
من لا يرى…
فليفتح عينيه الآن
ما يحدث في اليمن ليس عابراً، ولا نتيجة خطأ في الحسابات .
إنها خريطة دمار مرسومة بعناية، تُنفّذ بخطى ثابتة، هدفها ليس فقط إضعاف البلد والدولة، بل محوها من الأساس :
حجراً بعد حجر، وإنساناً بعد إنسان .
منذ اللحظة الأولى التي دوّى فيها أول صاروخ فوق سماء صنعاء، وعدن، والحديدة، كان واضحاً أن المستهدف ليس “ انقلاباً ”، بل الوطن كله .
وطن يراد له أن يتحوّل إلى ساحة مستباحة، تتقاسمه القوى الإقليمية والدولية، بلا حدود، ولا ضمير، ولا كوابح إنسانية أو أخلاقية .
ميناء رأس عيسى لم يكن مجرد هدف عسكري، بل حلقة مفصلية في سلسلة جرائم ممنهجة، سيكتبها التاريخ في صفحاته السوداء، ولن ينساها اليمنيون ما دام فيهم نفسٌ يتردد .
الصمت خيانة، والموقف الآن ليس ترفاً… بل ضرورة وجود .
الكلمة مقاومة، والحقيقة سلاح، والكتابة هي المعركة الأولى في وجه الزيف والتواطؤ والنسيان .
لك الله ياوطني الجريح