في كل مرة تتفجر فيها أزمة جديدة في المحافظات الجنوبية، يخرج علينا من يصر—بقدرٍ لافت—على تبرئة السعودية، والتعامل مع ما يقوم به المجلس الانتقالي وكأنه تمرد منفلت، أو مغامرة معزولة لا علاقة لها برضا الإقليم ولا بحساباته، هذا الخطاب لم يعد مجرد سذاجة سياسية، بل صار شكلا من أشكال إنكار الوقائع الصلبة التي تراكمت أمام أعين الجميع!
ما جرى اليوم ليس انقلابًا طارئا، ولا تحركا استثنائيا خرج عن السياق، المجلس الانتقالي لم يولد مع أحداث حضرموت، ولم يختبر قوته للمرة الأولى هناك، هذا المجلس انقلب على الحكومة الشرعية في عدن أكثر من مرة، وسيطر على مؤسسات الدولة بقوة السلاح، وخاض اشتباكات دامية مع قواتها خلال ثلاث سنوات كاملة، دون أن يحاسب، ودون أن يوضع حد حقيقي لسلوكه.
بعد انقلاب عدن، لم يعزل الانتقالي، ولم يصنف كقوة متمردة خارجة عن الشرعية، بل حدث العكس تماما: استدعي إلى الرياض، وعقد له مؤتمر برعاية سعودية كاملة، وأبرم اتفاق في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لم يكن هدفه إعادة الاعتبار للدولة بقدر ما كان شرعنة الأمر الواقع الذي فرضه السلاح، اتفاق الرياض لم يجبر الانتقالي على تسليم مؤسسات الدولة، بل كافأه على السيطرة عليها، ومنحه مقاعد في الحكومة، وحصة سياسية مساوية للشرعية التي انقلب عليها..
ثم جاءت الخطوة الأخطر: دمج الانتقالي في الحكومة، ثم في مجلس القيادة الرئاسي، أي أن من انقلب بالسلاح، وقاتل الدولة، ورفض تنفيذ الترتيبات العسكرية والأمنية، جرى تحويله—بمباركة سعودية—من مشكلة إلى شريك، من هنا، يصبح الحديث عن أن تحركات الانتقالي تجري بعيدا عن رضى السعودية حديثًا بلا أساس، أو محاولة متعمدة لتجميل واقع قبيح.
السعودية ليست مراقبا محايدا في المشهد الجنوبي، بل فاعل رئيسي فيه، هي من رعت الاتفاق، وهي من ضغطت لتنفيذه سياسيا دون تنفيذ شقه العسكري، وهي من وفرت الغطاء الإقليمي والدولي لإعادة تدوير الانقلابي في ثوب الشرعية، وعندما يسمح لقوة مسلحة أن تحتفظ بسلاحها، وبقيادتها المستقلة، وبولائها السياسي الخاص، ثم تدمج في مؤسسات الدولة شكليا، فماذا ينتظر منها غير تكرار الانقلاب كلما سنحت الفرصة؟
حضرموت اليوم ليست استثناء، والمهرة قبلها ليست لغزا، ما يحدث هناك هو نتيجة طبيعية لمسار سياسي خاطئ، بني على فكرة احتواء الفوضى عبر مكافأتها، وشراء الهدوء المؤقت على حساب الدولة، من يظن أن الانتقالي يتحرك وحده، أو أن السعودية فوجئت بما يجري، يتجاهل عمدا أن هذا المسار كله صنع في الرياض، وبأدوات الرياض، وتحت سقف الرضا السعودي.
البراءة التي تمنح للسعودية في الخطاب الإعلامي ليست سوى محاولة للهروب من الحقيقة: لا يمكن فصل ما يجري في حضرموت والمهرة عن السياسة السعودية في اليمن، هذه السياسة لم تنتج دولة مستقرة، بل أنتجت مراكز قوى مسلحة، تتغذى على الانقسام، وتتحرك كلما ضعفت الشرعية أكثر.
إن الاستمرار في تبرئة السعودية، أو تصويرها كوسيط حسن النية، لا يخدم الحقيقة ولا اليمنيين، المسؤولية السياسية والأخلاقية تقتضي تسمية الأشياء بأسمائها: من شرعن الانقلاب، وغطى عليه، وأدخله إلى قلب السلطة، لا يحق له الادعاء بأنه بعيد عما يجري اليوم، ومن لا يزال يرفض الاعتراف بذلك، فهو إما مخدوع، أو شريك في خداع الآخرين.