شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
اعتقال العقول… حين تتحوّل المعرفة إلى ساحة صراع
في لحظات التحوّلات الكبرى، لا يُقاس مزاج الدولة ولا نبض المجتمع بعدد البنادق ولا بتغيّر الخرائط وحده، بل يُقاس بمدى احترام الوطن لعقوله التي تشكّل ذاكرته النقدية وضميره المعرفي.
وفي اليمن، حيث تختلط السياسة بالنجاة اليومية، جاء اعتقال ثلاثة من أبرز رموز الفكر والعمل المدني – البروفيسور حمود العودي، والمهندس عبد الرحمن العلفي, والأستاذ أنور شعب – ليطرح سؤالاً مريراً:
هل أصبح العقل اليمني مهدّداً أكثر من الجغرافيا نفسها؟
1. العودي… حين يصبح العالمُ خصماً غير مرغوب في وجوده
البروفيسور حمود العودي ليس مجرد أكاديمي؛ إنّه مشروع معرفي تشكّل على مدى أربعة عقود من البحث، والكتابة، والعمل الاجتماعي.
يمثّل أحد أهم الجسور بين الجامعة والمجتمع، بين البحث العلمي والحاجات اليومية لليمنيين.
اعتقال شخصية بهذا الوزن لا يترك أثره على محيطها فقط، بل يوجّه رسالة قاسية إلى المجال الأكاديمي بأكمله:
أن الفكرة حين تُزعج تصبح جريمة.
وفي بلدٍ يحتاج إلى العقل أكثر من حاجته إلى أي شيء آخر، يصبح تغييب شخصية مثل العودي صفعة للمسار الوطني نفسه.
2. العلفي… حين تُعاقَب التنمية لأنها لا تنتمي لغير الوطن
على مدى سنوات، عمل المهندس عبد الرحمن العلفي على مشاريع تنموية ومؤسسات تعاونية نجحت في بناء ما عجزت عنه المؤسسات الرسمية.
كان الرجل يعمل بصمت، بواقعية، وبانحياز كامل للإنسان العادي. لم يُبنِ مركزاً هندسياً فقط، بل نسج شبكة من الثقة بين أبناء المجتمع.
استهداف مثل هذه الشخصيات يثير القلق حول مستقبل المبادرات المدنية؛ فهو يُرسل إشارة مفادها أنّ العمل الوطني ـ إن لم يخضع لمنطق القوة ـ يصبح مريبًا.
3. أنور شعب… المثقف الذي آمن بأن الحوار أقوى من الخصومة
يمثّل الأستاذ أنور شعب نموذجاً للمثقف الهادئ، الذي يعمل على إدارة الحوار لا على هندسة الصراع.
حمل ملفات الفكر والتواصل المجتمعي دون أن يسعى إلى الأضواء أو يقترب من دوائر النفوذ.
اعتقاله لا يضرب شخصه وحده، بل يوجّه رسالة خطيرة مفادها أنّ الاعتدال نفسه بات مُرتابًا منه.
وهذا مؤشر يهدّد ما تبقى من الحياة المدنية.
دلالات استراتيجية أبعد من ثلاثة اعتقالات
هذه الاعتقالات ليست حدثاً معزولاً.
إنّها جزء من معركة أكبر حول تعريف مستقبل اليمن:
هل سيكون بلدًا تقوده مؤسسات معرفية وعقول نقدية؟
أم بلدًا تحكمه ردود الفعل وحسابات القوة وحدها؟
عندما تُخشى الكلمة أكثر من السلاح، ويتحوّل الحوار إلى تهديد، فهذا يعني أنّ البنية السياسية بلغت درجة من الهشاشة تجعلها ترى في الفكرة خصماً يفوق قدرتها على التحمّل.
والأخطر من ذلك، أنّ تغييب هذه الشخصيات يعمّق الفراغ المعرفي في بلدٍ يحتاج إلى رصيد فكري هائل لاستعادة الاستقرار، وصياغة عقد اجتماعي جديد، وتأسيس دولة قادرة على النهوض بعد سنوات الصراع.
الحرية هنا ليست مطلباً… بل ضرورة وطنية
المطالبة بالإفراج عن العودي والعلفي وشعب ليست دفاعًا عن أفراد، بل دفاعًا عن بنية الدولة نفسها.
فالأوطان التي تضع عقولها في السجون تفقد تدريجياً قدرتها على التوازن، وعلى إنتاج المعنى، وعلى بناء الثقة مع مواطنيها ومع العالم.
إنّ أي مشروع وطني جاد يحتاج إلى ثلاث ركائز:
• العقل الأكاديمي الذي يمثلّه العودي،
• العمل المدني الذي يجسّده العلفي،
• الحوار المجتمعي الذي حمله شعب.
وإسكات هذه الركائز هو إسكات لاستراتيجية النهوض، لا لأشخاص بعينهم.
الخلاصة :
اليمن… بين الخوف من الضوء والرغبة في النهوض
قد تستطيع السلطة أن تُسكت الأفواه لبعض الوقت، لكنّ الأفكار لا تُعتقل، والوعي لا يُجمّد.
واليمن، مهما ثقل عليه الظلام، سيظل ينهض بالعقول التي تجرأ البعض على اعتقالها، وبالمعرفة التي حاول البعض أن يضيّق عليها الخناق.
فمن يطارد الضوء، سيبقى أسيراً لظلامه.
أما اليمن، فسينهض… لأنّ المعرفة أقوى من السجن، ولأنّ التاريخ يكتب دائمًا ما يعجز الخوف عن حذفه.